فقدان الهوية بين الزيف والخيال

فقدان الهوية بين الزيف والخيال

العدد 556 صدر بتاريخ 23أبريل2018

يبحث كل منا عن ذاته حتى يستطيع اكتشاف هويته الخاصة في ظل المشكلات الاجتماعية والسياسية وغيرها، وقد تضيع هويتنا وسط الزحام ووسط من نحبهم إذا وجدناهم يُقمعون أهدافنا وطموحاتنا ولا يهتمون بما نهتم به، أو إذا رأوا تلك الاهتمامات الخاصة بنا ما إلا سخافات وتفاهات.
ولكن ماذا سيحدث لنا إذا اختفى من نحب ونرى العالم من خلاله؟
وإذا كنا نحدد ذاتنا ورؤيتنا للحياة من خلال رؤيته ومن ثَم وجدنا أنفسنا وحيدين في تلك الحياة، هل ستتمكن تلك الوحدة من ضياع هويتنا التي نبحث عنها إلى الأبد؟ أم ستجعلنا نُدرك حقيقة ما يدور حولنا، وتكون تلك الوحدة هي السبيل لاكتشاف الفرق بين الزيف والواقع أي تكون هي السبيل للحياة.
العرض الفرنسي “هل هذا هو المكان؟” الذي قُدم ضمن فعاليات مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة - دي كاف، موسيقى العرض لـ«ألكسندر ماير»، وتصميم الإضاءة لـ”فيليب جلاديو”، والعرض من تمثيل وإخراج «كليمنتين بايير».
قُدم العرض في شكل المونودراما المسرحية، ويناقش فكرة تجول الهوية بين الزيف والخيال والبحث عن الهوية الخاصة والذات، حيث إن الممثلة كانت شخصية بلا اسم في العرض أي بلا هوية فتظهر الممثلة على الخشبة وتحكي لنا عن غياب أحد الأحباء ذلك الغياب الذي فتح الباب لظهور هويتها، حيث إنه بعد اختفائه فجأة أصبحت تتذكر هويته هو والتفكير فيما كان يهتم به ويخبرها إياه حتى تكتشف أنها لم تكن على قناعة تامة بما يقوله وأنها كانت تصدقه حتى وإن كان عقلها يخبرها أن أقواله تلك غير منطقية، فحاولت اتباع خطاه من خلال السفر والبحث عنه فتبدأ باكتشاف العالم حولها، وبالتالي تكتشف الكثير من العوائق التي تؤثر في هوية الإنسان مثل الظواهر التاريخية كظاهرة الربيع العربي وأحداث 11 سبتمبر في أمريكا والحرب في كثير من البلاد وغيرهم، حتى أدركت أن هناك عالم آخر غير عالمها المرتبط بالغائب وتدرك الفرق بين الزيف والواقع.
جذب العرض نتباه المشاهدين بداية من عنوانه «هل هذا هو المكان؟» حيث إننا لا ندرك أي مكان الذي يتم التساؤل عنه خاصة وأن العرض خاليا تماما من الديكورات فلا يوجد أي قطعة ديكور على خشبة المسرح تشير إلى أي مكان، كما أن حديث الممثلة في العرض الذي يشير إلى ذهابها إلى القبور للبحث عن قبر معين ولا تجده ومن ثَم السفر إلى الكثير من الدول حتى تجد نفسها في نهاية المطاف في القبر الذي كانت تبحث عنه من البداية وكأن وصولها إلى ذلك القبر كوصولها للحقيقة والحياة الواقعية وإدراك ذاتها وهويتها.
كانت موسيقى العرض هادئة تميل إلى الحزن كما أن الإضاءة كانت ما بين إضاءة عامة على خشبة المسرح تتغير ألوانها بين الأحمر والأصفر على حسب الحالة النفسية التي تصل إليها الممثلة، وما بين بؤر ضوئية تختلف أحجامها بين بؤرة على جسد الممثلة أو بؤرة على وجهها فقط تمثل الثُقب الأسود الذي يعتبره الفيزيائيون آلة سفر عبر الزمن تجعل الإنسان يختفي من عالمه فجأة ويذهب إلى عالم آخر بزمن آخر، وتعتبره الممثلة في العرض هو سبب اختفاء ذلك الشخص الذي اختفى فجأة بدون مبرر، هذا بالإضافة إلى ملابس الشخصية التي كانت عبارة عن بدلة سوداء بأكمام طويلة وتُغير الممثلة شكل تلك البدلة على خشبة المسرح عندما تبتعد عن البؤرة الضوئية الخاصة بها لتظهر مرة أخرى بالبدلة ولكن بكم واحد ومن ثَم من غير أكمام، وكأن تجريد تلك الأكمام عنها كتجريد الخيالات التي تدور حولها حيث إن تغيير شكل البدلة لا يتم إلا حين تكتشف الممثلة في العرض حقيقة ما في عالمها، كما تميز الأداء التمثيلي لها من خلال تغيير الأداءات ونبرات الصوت.
ونجد منذ بداية العرض وحتى نهايته سؤالا دائما يتكرر على لسان الممثلة، وهو “هل ما يحدث من خيالي أم حقيقي، أقصد في الواقع الحقيقي؟” لتجعل المُشاهد لا يبحث عن هويته فقط، ولكن تجعله يسعى وراء واقع الحياة والابتعاد عن الزيف والخيال.
فمن الممكن أن تكون حياتنا وسط الزيف والعالم الخيالي من المشكلات آمنة، ولكنها تحجب عنا الخبرة الحياتية التي تجعلنا قادرين على مواجهة مصاعب الحياة خاصة إذا اختفى من نرى العالم من خلاله، ومن ثَم أصبح لنا رؤيتنا الخاصة في هذا العالم.


علياء البرنس