رجل القلعة. . تساؤلات بين الماضي والحاضر

رجل القلعة. . تساؤلات بين الماضي والحاضر

العدد 554 صدر بتاريخ 9أبريل2018

صاغ الكاتب محمد أبو العلا السلاموني نصه المسرحي “رجل في القلعة” متأثرا بحالة متفردة لم تتكرر كثيرا في تاريخ هذا المجتمع.. حيث حاول صنع بناء درامي يطرح من خلاله تصورا حول العلاقة بين الحاكم وجموع الشعب في مجتمعنا، في لحظة تاريخية شديدة الخصوصية، ورصد مناطق قوتها، وكذا محاولة اكتشاف الثغرات التي أدت إلى تراجعنا عن مسيرة ونهج كنا أسبق له من كثير من المجتمعات الأخرى التي حذت حذونا واتسعت الفوارق بيننا وبينها بعد أن تخطفتنا الأحداث إلى منحدرات سياسية أبعدتنا عن الطريق الذي بدأناه.
وقد استطاع السلاموني بناء نص متجانس يمتلك دوافعه الدرامية وحبكته القوية من خلال حدثين متداخلين: أحدهما يمثل الحدوتة الإطار التي تمهد لحالة المسرحة التي تمثل الحكاية المروية كحدث من الماضي ليصل بنا إلى شكل منطقي للحدث يتسق مع أفكاره التي يطرحها على المتلقي، فقد وضع منذ البداية شخصيته الرئيسية في حالة ندم وألم لما اقترفه من أخطاء تلك الشخصية التراجيدية الخالصة هي محمد علي الممثل للحاكم الفرد، الذي أدرك في النهاية أن عمر مكرم كأيقونة لإرادة الشعب كزعيم وقائد للثورة، كان أحد دعائم حكمه الهامة حتى في لحظات خلافه معه، وأنه عندما فقده فقد قوته وانتصاراته. من لحظة الندم هذه والحزن على رحيل عمر مكرم، يبدأ السلاموني نصه بمحاولة المحيطين بمحمد علي إخراجه من تلك الحالة التي وصلت إلى حد الهذيان بمحاكة التاريخ وصناعة لعبة احتفالية يعيدوا بها كل ما حدث في تاريخ تلك العلاقة بين محمد علي كحاكم وعمر مكرم كأيقونة ترمز للشعب المصري.
وقد استطاع السلاموني أن ينتج نصا متماسكا قادرا على إحداث المتعة وتوصيل أفكاره دون تشويش أو تشويه للرسالة التي يعني توصيلها للمتلقي. هذا النص وقع عليه اختيار المخرج خالد حسونة وفرقة المنصورة القومية لتقديمه في تلك اللحظة التاريخية الهامة في حياة مجتمعنا في محاولة لاستراجع الماضي واستشراف المستقبل من خلال عمله المسرحي (رجل القلعة).. وقد حاول خالد حسونة الدراماتورج وضع النص في شكل يتسق مع اللحظة ويحدث تواصلا مع المتلقي، وذلك بالتخلي عن القصة الإطار التي تكرث لحالة الندم واكتشاف الحقيقة عند محمد علي واستبدالها ببناء آخر هو مجموعة شباب بزيهم العصري في رحلة إلى متحف محمد علي لتحدث لهم مفارقة يكتشفون من خلالها أن حارس المتحف يرتدي زي خورشيد باشا حاكم مصر لتسببه في إتلاف تمثاله، ويفاجأوا بشكل فنتازي أن التماثيل تتحرك وتعيد سرد الأحداث التي عاشتها الشخصيات الحقيقية، فتقرر المجموعة مشاهدة هذا الحدث مع حارس المتحف، كما حاول تعويض كسر سياق الحدث في القصة الإطار للنص الأصلي بأن يشطر شخصية محمد علي إلى شخصيتين هما (محمد علي الشاب القوي الطموح/ تامر محمود – محمد علي العجوز ذو الخبرة الكاشف للحقيقة/ رجائي فتحي)، إلا أن القصة الإطار لم تحظَ ببناء درامي يمتلك من المبررات ما يجعله قادرا على إنتاج المعنى، وبدا غلافا هشا لم يستطع أن يكون بديلا فاعلا ومؤثرا، كما كانت القصة الإطار التي صاغها مؤلف النص السلاموني سواء على مستوى الكلمة التي أصبحت مباشرة ولا تحمل جماليات لغة النص الأصلي أو الفعل الدرامي، وجاءت كرابط أو ممهد للحدث دون تأثير درامي حقيقي.
تلك المعالجة أحدثت فجوات داخل العمل ونقلات مفاجئة دون تمهيد وفقدت مبررها الدرامي، منها هذا المشهد الذي جمع شخصيتي محمد علي عند قراره بالصعود إلى القلعة ورفض الوصاية من حكماء الأمة وعلى رأسهم (عمر مكرم/ أشرف عودة)؛ حيث نرى الشاب محمد علي في قمة اعتزازه بنفسه وإصراره على الانفراد بالحكم، بينما محمد علي العجوز ناصح له بألا يصعد وأن يتمسك بتعهده لعمر مكرم، إلا أنه في لحظة ينقلب الحال ونرى توحدا في الإصرار والرغبة لدى الشخصيتين ليختم المشهد باتخاذ القرار بالصعود إلى القلعة منهما معا، تلك اللحظة أحدثت خللا في بناء شخصية محمد علي العجوز بل وأفقدتها مبرر وجودها.. اللحظة الأخرى عند موت عمر مكرم ومحمد علي الشاب في قمة تحديه له وقمة إصراره على مواقفه، هنا تنقلب الشخصية بلا مبرر في حزن وندم على فراق عمر مكرم دون مبرر ودون تمهيد لتختلط أوراق الشخصيتين ويصبح مبرر الفصل بينهما غير واضح ليفقد العمل أهم أفكاره الرئيسية وهي تلك العلاقة الفريدة التي جمعت بين محمد علي وعمر مكرم من وجهة نظر السلاموني التي تمثل رسالة النص الأساسية.
أما القصة الإطار، فلم يستطع المخرج أن يجد لها وجودا في نهاية الحدث سوى في إدماجها داخل الفنال في محاولة لإحداث اشتباك بين الماضي والحاضر عكس الفنال التراجيدي في النص الأصلي.. وعلى الرغم من محاولة المخرج التركيز على تلك العلاقة بين الحاكم والشعب، فإن الطرح في النص الأصلي كان أشمل وأعمق وأكثر تركيزا.. أما المخرج خالد حسونة، فكان واعيا لرسالة العمل، فجاء التصور التشكيلي لخشبة المسرح، الذي صممه شادي قطامش، قريبا ودالا إلى هذا المعنى، فقد قسم الخشبة إلى مستويين: المستوى الأعلى للقلعة، والآخر للمحكمة الشرعية، مع انفصال لبيت عمر مكرم عن هذا التكوين ليصبح رمزا وأيقونة للحلم الغائب والأمل المنشود، إلا أن هذا التشكيل لم يستطع أن يعبر عن مكان الحدث الذي افترضه الدراماتورج، وهو متحف محمد علي كما بدت الألوان والتشكيلات المختارة غير قادرة على الفصل والتمييز بين بهاء وجمال القلعة وبساطة المستوى الأدنى الذي اختاره للتعبير عن الشعب ليكتفي بالفصل بالمستويات، ليصبح التكوين البصري يفتقد إلى التنوع والثراء على مستوى اللون، وكذا التشكيلات.
الملابس جاءت وظيفية وإن تنوعت بين ما هو عصري للجوقة التي كونها من الشباب الزائر للمتحف وبين مجموعة الشخصيات التاريخية التي جاءت في ملابسها المعتادة بالقدر المتاح إنتاجيا.
أما الحركة التي صاغها المخرج، فجاءت متنوعة استطاع من خلالها إثراء عين المتلقي وصنع إيقاعا منضبطا للعمل بمساهمة مجموع الممثلين الذين اقتربوا كثيرا من الشخصيات بوعي كبير أضفى على العمل المتعة والتناغم والانضباط، وخصوصا العناصر الشابة حديثة العهد بالفرقة. أما القدامى، فكان للأداء الواعي الذي يعتمد على خبرة السنوات الطويلة للقدير رجائي فتحي، دور في إبراز الجانب الإنساني في شخصية محمد علي وإبراز وعيها بتلك المحنة التي تعيشها بسبب انفصالها عن الشعب، أيضا أشرف عودة في أدائه لشخصية عمر مكرم بوعي كبير بأبعادها الدرامية وقدرته على التحكم في إيقاع المشهد وضبط انفعالاته وأدائه السهل الممتنع، كان أحد العوامل الهامة في توصيل رسالة العمل.
وبشكل عام، فقد نجح خالد حسونة، على الرغم من كل الملاحظات على هذا العمل المسرحي، في إعادة فرقة المنصورة القومية إلى مسارها الصحيح بهذا العرض المميز المنضبط الممتع، وتلك الكوكبة من الفنانين القدماء والجدد.
 

 


طارق مرسى