شقة عم نجيب فعل المشاركة.. وحضور الغياب

شقة عم نجيب  فعل المشاركة.. وحضور الغياب

العدد 552 صدر بتاريخ 26مارس2018

يقدم مسرح الغد العرض المسرحي “شقة عم نجيب” تأليف سامح مهران وإخراج جلال عثمان. عليك أن تعرف كمتلقٍ أنك ستجلس في المنتصف، بينما خشبة المسرح تتحول إلى أماكن للتمثيل ترتفع قليلا عن مستوى جلوسك، وتحيط بك من جميع الجهات، ولتتمكن من المتابعة عليك ملاحقة ما يقدم من خلال التحرك بالكرسي في دائرة، بذلك التتابع الزمني للأحداث المسرحية التي لن تفلت من الانغماس فيها.
أنت هنا كمتلقٍ مُجبر على ذلك الفعل المُشارك عبر الحركة في المكان، وإلا لن ترى الأحداث المسرحية، وكأنه فعل “الحب” ما قال عنه «جان لوي بارو» عن معنى المُشاركة من قبل المتلقي “أن يصبح العرض المسرحي تألفا بين الممثلين والجمهور” ذلك الفعل الذي من شأنه أن يعيد كل فرد إلى اكتشاف روح جمعية يشترك فيها مع الآخرين، هنا في هذا العرض لم يعد المُتلقي سلبيا وإنما مُشارك بفعل الحركة.
ينطلق العرض في بنية دائرية من الواقع إلى الخيال، وصولا إلى الواقع من جديد ولكن بشكل مُغاير، فمن قضية آنية معاصرة تنعكس من خلال شخصيتي “سعدية” و”عباس” وهما زوجان يبحثان عن مسكن للزوجية يناسب وضعهما الاقتصادي السيء، وصولا إلى خروج سعدية بمفردها إلى الواقع من جديد.
من خلال إعلان في صحيفة يلتقط الزوجان ما كتب عن شقة قد تبدو مناسبة لحالتهما، هنا يمكن النظر إلى فكرة الزيف التي قد تصدرها الصحف، حيث تبني الأحلام عن حياة سعيدة في الشقة المُعلن عنها، وما أن يصل الزوجان إلى تلك الشقة حتى يكشفا عن هذا الزيف، الذي يؤدي بهما إلى الانفصال، فهي شقة مسكونة بالأشباح في عالم يناهض الحقيقة.
الشخص المستقبِل للزوجين يؤكد أنه صاحب الشقة، ويطلب منهما مساعدته في طرد أشباحها، هذا في مقابل إقامتهما في الشقة، وهو شخصية روائية من شخصيات “نجيب محفوظ” هو ذلك الإقطاعي في رواية ميرامار، يتعامل بمنطق الطبقية ويستخدم نوعا من الزيف، فالشخصيات الدرامية مشتركة مع المتلقي في التوهم بأن ذلك الشخص حقيقي آني كالزوجين، بما يعني أنه ليس شخصية من نسج خيال الروائي نجيب محفوظ الذي يعد حاضرا بشخصياته الروائية غائبا عن عالمنا الحقيقي.
المسرحية تعتمد بشكل أساسي على استحضار مجموعة من الشخصيات الروائية، التي قدمها صاحب نوبل في رواياته الشهيرة، والتي تحولت إلى أفلام، لذلك تجد المُتلقي يعرفها جيدا، فمن هذا الإقطاعي الذي يوهمك بأنه صاحب الشقة المهيمن عليها، إلى شخصية “أحمد عبد الجواد” أو سي السيد، صاحب الازدواجية الشهيرة، في معاملة الزوجة أمينة بمنتهى الحزم، في مقابل الرضوخ والانسياق والإذعان لرغبات عشيقته زبيدة، يرسم الكاتب «سامح مهران» صورة ترى فيها الكثير من الشخصيات التي تبدو في حياتها العامة بوجه ناصع البياض، بينما في ما وراء المرئي، حيث الظلام، لا تجد سوى كل ما يخجلون منه وتدهش لرؤيته.
تلك الشخصيات تستحضر من الدولاب وكأنها كامنة منتظرة ليست في حاجة سوى إلى استحضارها من الماضي، وبسطوة الشهوة تستطيع تلك الشخصيات أن تجذب الزوج إليها، وعلى ذلك يفضل حياة الدولاب معهم بعيدا عن فقر وقهر الواقع، بينما الزوجة سعدية التي إذا ارتفعنا بها إلى مصاف الرمز يمكننا أن نرى فيها “الوطن” الذي يقاوم كل ما حوله من محاولات زعزعته، وإدخاله في دائرة من التردي لا تنتهي، كذات الدوائر المنقوشة على جدران ذلك الجزء من التمثيل، ومن شخصية “سي السيد” إلى شخصية “محجوب عبد الدايم” ذلك الانتهازي في القاهرة 30، ومحاولاته في إغواء “سعدية”، مستعينا في ذلك بثلاثة من الشياطين مصاحبين لحركته على الدوام وكأنه رمز الخطيئة والغواية، ويظل فعل المقاومة من “سعدية” هو الأساس الدائم، حتى وإن واجهتها شخصية الشيطان نفسه، في منطقة أخرى من التمثيل تلك الشخصية ذات رأسين، وهي تعبر عن الشر الشيطاني بشكل واضح، ومحاولاته المستمرة في هزيمة بني البشر، ويظل الصراع قائما بينه وبين “سعدية”، وصولا إلى حالة التصدي للظلام من قِبلها ومن ثم تفتح شبابيك الشقة ليبرز ضوء النهار، فتتبدى لها شخصية “علي طه” ذلك المناضل الثوري في القاهرة 30، ولأنه يبغي الحرية والعدالة والمساواة تجده معلقا على الجدار مغلل اليدين، وهو يطلب من “سعدية” أن تخرج “ريري” من الثلاجة التي جمدت بداخلها، فالمجتمع لم يعد بحاجة إلى ما يذكره بأخطائه، “ريري” شخصية من رواية “السمان والخريف” التي تقدم معنى مُغايرا لما انتهت به الرواية، فلم يقتصر الأمر على عودتها إلى عيسى ذلك المثقف المتسلق، بل تؤكد “ريري” أنه عندما تحسنت الأحوال تركها وعاد إلى حياته من جديد، لتظل هي ضحية المجتمع والمنبوذة منه، تتضافر جهود تلك الشخصيات الخيالية أو الأشباح لإعادة “علي طه” إلى الجدار من جديد، بعد أن حررته “سعدية”، التي يحاولون السيطرة عليها وتدجينها في سياق الماضي لتدور في فلك شقة عم نجيب شقة الأشباح، إلا أنها تتمرد وتثور وتخلع عنها كل تلك الحالة الوهمية لتطالب بالحرية والعدالة خارجة من الشقة المظلمة إلى ضوء النهار والأمل.
يلتقط الكاتب تلك الشخصيات وملامحها من عالم نجيب محفوظ، بينما يضعها في سياق آني معاصر محاولة جر الحاضر للعيش في ماضيها، الكامن في لاوعينا، لكنه أيضا ينتصر للمستقبل والحاضر بخروج “سعدية” إلى الحياة من جديد، يمكن النظر إلى هذا العرض على أنه ينتصر للمرأة بشكل واضح، فهي هنا القادرة على امتلاك فعل المبادرة، بل هي القادرة على التحرر من براسن الماضي إلى الحياة الرحبة في اختيار واضح لضوء النهار، وما يمثله من الأمل في مقابل ماضٍ يبغي حياة خفية، بها قدر واضح من الازدواجية.
الرؤية التشكيلية لـ”ناهد السيد” وقد ساهمت بشكل أساسي في إضفاء الجو العام على العرض المسرحي، فكل منطقة للتمثيل تم التعبير عنها من خلال مفرداتها التشكيلية بشكل هام، ففي اللوحة الأولى التي يتحدث فيها الزوجان تجد خلفيتها عمارات شاهقة، لكنها عبارة عن خطوط وأشكال هندسية مفرغة كدلالة على أن ذلك الارتفاع الشاهق لهذه العمارات قد يحوي فراغا بما يعني مظهرا خارجيا وفقط، دون جوهر إنساني، وفي اللوحة الأخيرة يسيطر اللون الأبيض دلالة النقاء والحقيقة التي تتجلى في شخصيتي ريري وعلي طه.
قامت هبة توفيق بأداء شخصية “سعدية”، واستطاعت الانتقال باللحظات الدرامية وفق الرؤية الإخراجية المطلوبة، فمن ضعف الحاجة إلى عش للزوجية إلى ثورة وتمرد على كل الزيف القائم.
خضر زيتون قدم شخصية الزوج وغلب الحس الكوميدي على أدائه التمثيلي وقد وفق في أداء الدور.
شريف عواد قام بأداء دور الإقطاعي ذلك المزدري للجميع وجاء أداؤه منضبطا بشكل واضح.
ريهام حسن، سلمى رضوان، محمد عبد الرحمن، أحمد نبيل، مروة يحيى، جميعهم أدوا أدوارهم بإتقان ساهم في تدعيم الحالة العامة للعرض المسرحي.
الموسيقى والألحان لـ”ياسمين فراج” وقد استطاعت الموسيقى التعبير عن اللحظات الدرامية المطلوبة في العرض المسرحي، وساهمت في إضفاء الجو العام.
عرض “شقة عم نجيب” يحمل أفكارا مُغايرة ويستحضر شخصيات كامنة في «ذاكرتنا الجمعية» من أعمال نجيب محفوظ، ويحاول مواجهتنا بكل ما في هذه الشخصيات من عوار، ويطلب منا كمتلقين بشكل أساسي أن نختار إما الدخول إلى ذلك العالم الخفي المعتمل بالرغبات الإنسانية المُخجلة والكامنة في اللاوعي - أي الولوج داخل الدولاب مع تلك الشخصيات كما اختار الزوج - وإما أن نختار وضوح النهار ونفعل كما فعلت سعدية.
أنت هنا كمتلقٍ لك حرية الاختيار فأنت مُشارك من بداية العرض.


داليا همام