المسرح الكنسي (2)

المسرح الكنسي (2)

العدد 553 صدر بتاريخ 2أبريل2018

1 - قضايا السياسة والفتنة الطائفية:
 ربما لم يعرف تاريخ المسرح الكنسي في مصر والمنطقة العربية ضجة مثارة مثل تلك التي حدثت بسبب مسرحية “كنت أعمى والآن أبصر”، التي أنتجتها وقدمتها كنيسة مار جرجس والأنبا أنطونيوس بمحرم بك بالإسكندرية، والضجة المثارة لا تخص أية قيمة فنية أو فكرية طرحتها المسرحية، ولكن كانت بسبب تعرض المسرحية لمعالجة أحد الأمور الخاصة بالدين الإسلامي، ففكرتها تدور حول تحوّل أحد الشباب، الذي لم يتجاوز عمره 19 عاما، من المسيحية إلى الإسلام، طمعا في المكاسب المادية والدنيوية التي أوهمه صديقه المسلم بالحصول عليها بعد دخوله للإسلام، وبعد تتبعنا لرحلة “مينا” المسيحي الذي اعتنق الإسلام وصار اسمه “طه” داخل دراما المسرحية، نجده يكتشف أن الإسلام لا يناسبه، لأنه لا يلبي له أطماعه التي دخل إلى الإسلام بسببها؛ وهي الحصول على مسكن وأموال وزوجة وغيرها؛ لذا فهو يقرر الهرب من بيت الشيخ الذي يقيم عنده، والذي يطلق عليه أتباعه لقب “الأمير” - أي أمير الجماعة الإسلامية - وفي رحلة الهروب التي تجسدها المسرحية سينمائيا يحاول أحد أتباع الشيخ اللحاق بـ”مينا” للانتقام منه، ورغم محاولات صديق “مينا” المسلم وأحد أتباع الشيخ المستنيرين منع ذلك الرجل من قتل “مينا” فإنه ينجح في قتله في النهاية.
عرضت هذه المسرحية تحت رعاية الأب أوغسطينوس فؤاد والأب أنطونيوس فهمي بكنيسة مار جرجس في عام 2003، وقام بتمثيلها مجموعة من الهواة، منهم: مينا جمال، فادي عياد، أندرو نجيب، بيتر نبيل، محب ماهر، نادر ذكري، جون إميل، مينا صبحي. وقدمت لمدة ليلة واحدة لشعب كنيسة مار جرجس ولم يرها أي مسلم، وانتهى أمرها، وبعد مرور ما يزيد على عامين، وتحديدا في السادس من أكتوبر عام 2005م، نشرت جريدة “الميدان” الأسبوعية المصرية، وهي جريدة مستقلة، تقريرا مطوّلا كتبه وليد عرابي تحت عنوان “بلاغ إلى قداسة البابا شنودة”، وكتبت مانشتات بالحجم الكبير تقول: “أبطالها مسيحيون وتصوّر حياة ما قبل وبعد الإسلام بالجهل والتخلف، وترى أن شريعة القرآن مستنسخة، ونشر الدين الإسلامي لم يكن بالود أو الموعظة...”(23).
وسرعان ما تلقفت جريدة أخرى هي “الأسبوع” الخبر، وأسهبت فيه بتفاصيل أكثر عن المسرحية وما ورد بها؛ حيث كتبت بعدها بأربعة أيام محررة جريدة “الأسبوع” زينب عبد الله، تقريرا تحت عنوان “في انتظار تدخل البابا شنودة ومحاكمة المتهمين”، ثم عنوانا آخر هو “الجرائم الصبيانية لإشعال الفتنة الطائفية”(24)، ثم أعادت جريدة “الأسبوع” النشر في نفس القضية مرّة أخرى في الأسبوع التالي لنشر الخبر لأول مرّة بها، وتلك كانت الشرارات الأولى لقيام ما يشبه الحرب الأهلية بين المسلمين والأقباط بسبب مسرحية متواضعة فنيا وفكريا ولا ترقى لإحداث مثل هذه الضجة، فهي تكاد لا تمس حتى القشرة الخارجية لعصب المسيحية ولعصب الإسلام أيضا، قدمها مجموعة من الشباب المتحمسين للمسيحية وهم يعتقدون خطأ أنهم بذلك يقدمون للمسيحية خدمة بإظهار الإسلام بهذه الصورة العشوائية، وثار ضدها مجموعات من المسلمين المتحمسين أيضا وهم يعتقدون خطأ أنهم بثورتهم العنيفة هذه يدافعون عن الإسلام.
والمسرحية لمن يشاهدها(25) ضعيفة القيمة على مستوى الأداء التمثيلي والحركة العشوائية للممثلين؛ فلا توجد حركة معبرة عن حالة نفسية أو توتر ما، إنها حركة فقط بهدف الانتقال من مكان لآخر، أو الخروج والدخول للمسرح، كما أن بدايات ونهايات المشاهد وكذلك عملية المزج بين السينما والمسرح تعتريها ما هو أكثر من العيوب الدائمة لمسرح الهواة بصفة عامة، وواضحة بشكل مكثف ومبالغ فيه داخل هذا العرض بخلاف عروض كنسية أخرى سنعرض لها تتميز بانضباط فكري وفني يستأهل الكتابة عن محتواه وأفكاره الدرامية.
فعلى المستوى الفكري، سيجد المتتبع لمشاهدها أن هناك مقولات فكرية جاهزة أراد صناع العرض قولها بغض النظر عن شروط وتقنيات الوسيط المسرحي الناقل لهذه الأفكار؛ مما جعل العرض يظهر في النهاية وكأنه منشور ديني مسيحي هدفه الإساءة لمعتقدات الآخر المسلم ووصم الإسلام في جزء منه بالمتعصب والإرهابي، ومما ساعد على تكوّن مثل هذه النظرة لدى صناع العرض التي تنظر للإسلام على أنه دين يحتمل أن يداخله شيء من الإرهاب هو ذلك الخطاب المتشدد لدى بعض شيوخ الإسلام والمتمسك بشكل الدين الإسلامي لا بجوهره، الذي يؤدي إلى تخويف الناس منهم ومن الإسلام، بدلا من حثهم على فكرة حب الإسلام والتعلق به، ويحثهم ذات الخطاب المتشدد على الجهاد ضد من يخالفهم، ويميل إلى إطلاق الأحكام التكفيرية للمخالف في العقيدة ليس من المسيحيين فقط، بل من المسلمين الشيعة أيضا.
 لكن العرض المسرحي «كنت أعمى...»، الذي لا يُعرف على وجه التحديد مخرجه أو كاتبه، ينساق في مضمونه إلى الاستسهال الفكري ومعالجة قضية الاختلاف في تفاصيل العقيدة بين المسلم والمسيحي، بسطحية ومباشرة؛ فالستار يفتح على مجموعة من الملتحين وقوفا مع شيخ ذي لحية كبيرة يطلقون عليه أميرهم، وهو يوزع عليهم المهام؛ حيث يقول له أحدهم إنه سيتزوج عرفيا من إحدى الفتيات بهدف تجنيدها لخدمة أغراضهم الدعوية، بينما يرد الآخر بأنه استطاع تجنيد مجموعة من الأخوات المحجبات، لاحظ هنا كلمة “تجنيد” التي يستخدمها العرض، فهناك تصوّر لدى صناع العرض بأن مشكلات التنصير والأسلمة هي حرب وهو نفس الفهم المتشدد لدى بعض الشيوخ المتأسلمين أيضا؛ أي أن التطرف لدى البعض في الجانبين درجته واحدة، ثم ننتقل للمشهد التالي؛ حيث يدخل “مينا” الذي أعلن إسلامه لأن أصدقاءه المسلمين، وخصوصا “أحمد”، أقنعوه بأن خطوة الدخول تلك للإسلام ستحقق له مكاسب مادية ومعنوية كبيرة.
 ثم تبدأ بعد ذلك مراحل التعرف أو الاستنارة لدى “مينا” الذي تحوّل ليصبح “طه” بعد الإسلام، حيث يقابل بعنف لفظي من الأمير، الذي يصف أمامه المسيحيين بالكفار، ويمارس تفسير آيات القرآن حسب أهوائه ورغباته الشخصية، فالعرض يقدم صورة وحشية لا إنسانية لهذا الأمير، فهو شره في كل شيء، بدايةً من الطعام والشراب وحتى فكرة الزواج؛ فنحن نراه في أحد المشاهد الرئيسية يأكل بشراهة بينما “طه” جائع ولا يدعوه للطعام، فقط يكتفي بتذكيره بمحاسن وصفات الجنة التي حوّلها لمجرّد رغبات حسية فاجرة، وعلى الرغم من أن هذا الشيخ متزوج من أربع نساء، فإنه ما زال واقعا تحت أسر شراهته الجنسية، وبالتالي يصوره العرض وهو يأتي بفتاتين ليمارس معهما الجنس بحجة أنهما «ملك يمينه» كما يُقرر:
 - “وما ملكت أيمانكم ومن وهبت أنفسهن”.
وجزئية الحوار هنا تستند إلى تفسير العرض لآية من سورة “النساء” مع تحريفها وأدائها تمثيليا بما يوحي بالشراهة الجنسية للمسلمين، فالآية تقول:
 - “وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى والمساكين فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعدلوا”(26)
وتفسير الأمير لمعنى الآية وبشكل غير مباشر نجده في حواره الآتي:
 - “يعني إللي أقدر أشتريها وإللي تحبني وتوهبني نفسها، وكمان فيه زواج المتعة وهو زواج محدد المدة ومحدد الأجر”.
ثم يصل العنف اللفظي لأقصى مدى عندما يطلب الأمير من “مينا أو طه” أن يثبت ولاءه، وهذا الإثبات لا يكون إلا باستقطاب الكفار من المسيحيين لدعوتهم للإسلام وتخريب الكنائس وقتل أحد القساوسة.
كل ذلك بالإضافة إلى اعتماد الأمير على فكرة الناسخ والمنسوخ في القرآن، وهو ما يعني وجود آيات قرآنية تنسخ عمل آيات أخرى لأنها جاءت تالية لها ومعدلة لبعض أحكامها طبقا لتدريجية نزول الأحكام، وهذا ما يستند إليه العرض بشكل لا يخلو من خفة وفهم قشري للأشياء؛ لذا يظهر هذا الأمير وهو يفسر القرآن حسب أهوائه ورغباته فيستخدمه تارة ككتاب يحض على الجهاد والتكفير والقتل وقتما يشاء، أو ككتاب يحض على السماحة والقيم النبيلة وقتما يشاء أيضا.
ومقتل “طه” في نهاية العرض بعد نجاح هروبه من منزل الأمير وعودته لأسرته وكنيسته، يعني ترميزا باطنيا من العرض بأن ثمة اضهادا يقع على الأقباط/ الأقلية في مصر (10%) من قبل المسلمين/ الأغلبية (90%)، وبالطبع لا ينسى صناع العرض أن يلخصوا هدف المسرحية في جملتهم الأخيرة، التي اتخذت منها المسرحية عنوانها:
 - «أنا كنت أعمى ودلوقت فتحت، احتياجاتي المادية كانت عمياني، وعرفت أد إيه المسيحية عظيمة، أد إيه المسيحية قوية علشان تحب ناس بتكرهها بالمنظر ده...”.
والمتأمل للعرض سيجد أن صورة الإسلام الحقيقية مشوهة داخله، وصورة المسيحية الحقيقية المتسامحة مع الآخر مشوهة هي الأخرى، فكل الشخصيات فيما عدا “أحمد” صديق “مينا” هي شخصيات مريضة بالتعصب ومنغلقة على فكر أحادي يصوّر لها أنها تمتلك الحقيقة؛ فالأمير شره وجائع لا يشبع، ومستهلك للحياة وللدين وللقيم، و”مينا” لا يقل شراهة عن ذلك الأمير؛ فهو يترك مسيحيته طمعا في مكاسب دنيوية:
-«أنا مش مهم عندي موضوع الآخرة أنا إللي يهمني حياتي دلوقتي..».
 كما أن بقية المريدين للشيخ يصوّرهم العرض بأنهم أشخاص يتميزون بالبلاهة وبالطاعة العمياء من دون تفكير، منساقون كقطيع الأغنام، وقمة العنف اللفظي والتصويري في العرض هو ما يتعلق بطلب الأمير من “طه” قراءة مفتتح سورة “العاديات”:
-«والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا، فآثرن به نقعا..»(27).
وعندما يتعثر “طه” ويصحح له الأمير يستخدم العرض ذلك على أنه نوع من الكوميديا اللفظية، وبالتالي يأتي تفسير الأمير لهذه الآيات غير المفهومة بالنسبة لطه، على أنها تحتوي على موسيقى لفظية وسجع جميل، أما المعنى فهو غير مدرك، وهو ما يجعل “طه” يعلق بقوله:
 - “غريب قوي كلام القرآن ده، مش مفهوم خالص، هوّه ربنا ها ينزل كلام كده الناس مش فاهمينه، قال والحاج الأمير عجباه قوي الموسيقى والشعر والقافية، لكن برده مش فاهم حاجة، بس دي حاجة تضحك كلهم كده مش فاهمين..”.
 أي أن العرض يمتلئ بعنف لفظي وفكري وشخصيات ورقية مريضة لا تستند لمنطق حقيقي لا في حواراتها ولا في تطوراتها الدرامية، والتطور الدرامي الوحيد داخل العرض نجده لدى شخصية (مينا أو طه)، وهو تطور قسري لا يتميز بأي درامية، كل هذا يدرج العرض تصنيفيا ضمن العروض الكنسية الاجتماعية الضعيفة فنيا وفكريا، التي لا تستحق مثل هذه الضجة التي اشتعلت في الإسكندرية لعدّة أسابيع، وأحدثت تأثيرات اجتماعية وسياسية وفنية كبيرة، وأثارت أسئلة ربما لم يستطع أحد حتى الآن تقديم إجابات حقيقية لها.
- أسئلة مثارة وقضايا شائكة:
الغريب في أمر عرض «كنت أعمى..» أن الضجة المثارة حوله بدأت بعد انتهاء عرضه بأكثر من عامين؛ فالمسرحية عرضت في 2003 والضجة الإعلامية المثارة حولها بدأت مع بداية شهر رمضان في عام 2005 وتحديدا في شهر أكتوبر، حيث ظهرت أول مادة إعلامية منشورة في الصحف، ومن بعد ذلك تلقفت الكثير من الصحف والقنوات التلفزيونية تداعيات الأحداث التي يمكن حصر أهمها في النقاط التالية:
• 13 أكتوبر 2005، كانت قد تمت الدعوة لمظاهرة حاشدة بعد صلاة الجمعة أمام كنيسة مار جرجس التي قدمت المسرحية، وجاءت هذه الدعوة من قبل بعض المشايخ المترددين على مسجد «أولاد الشيخ» المواجه للكنيسة، ولكن المظاهرة لم تبدأ فعليا إلا بعد أذان المغرب، وبدأت بنحو مائة فرد وسرعان ما تجمع حولهم الكثير من عابري الشارع؛ فقد كان بعض الشيوخ يقومون بتوزيع صور بعض مقالات الصحف التي تهاجم المسرحية على المارة، وهو ما تسبب في تجمع ما يزيد على عشرة آلاف شخص، واستمر الهتاف ضد الكنيسة حتى ما بعد منتصف الليل بنحو ساعة ونصف.
• 19 أكتوبر، مظاهرة أخرى لنحو عشرة آلاف من المسلمين أمام الكنيسة، بالإضافة إلى حادث اعتداء نشرته الصحف على راهبة قبطية تدعى “سارة” بأحد شوارع الإسكندرية، ولم تعرف حقيقة المعتدي.
• 21 أكتوبر، مظاهرة جديدة أمام مار جرجس لكنها كانت أكثر عنفا هذه المرّة، حيث تبادل المتظاهرون قنابل الغاز وزجاجات المولوتوف ورمي الحجارة مع قوات الأمن المحتشدة لحماية الكنيسة، وذكرت وكالات الأنباء أنه قتل أحد المتظاهرين وأصيب ما يزيد على 60 متظاهرا آخر، وقد تم الاعتداء على كنائس أخرى بالإسكندرية في نفس اليوم بتكسير النوافذ والأبواب كالكنيسة الإنجيلية، وسادت في هذا اليوم حالة من الفوضى داخل شوارع الإسكندرية لم تستطع قوات الشرطة معها من السيطرة على الأمور؛ مما استدعى تدخل إحدى كتائب الجيش للسيطرة على الموقف.
• ألغى البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، حفل الإفطار السنوي الذي كان يقيمه للمسلمين، وبكى في عظته في الأربعاء الأخير من شهر أكتوبر بعدما ظهرت إشاعة بأن أحد الشيوخ قد أصدر فتوى بإهدار دمه لأنه لم يقدم اعتذارا عن المسرحية المسيئة للإسلام.
• 4 نوفمبر، قام النائب العام المصري وقتها المستشار ماهر عبد الواحد بالتصريح لصحيفة الأهرام المصرية بتصريح غريب قال فيه إن المسرحية المسيئة للإسلام غير موجودة أصلا(28)، وقد يعود مثل هذا التصريح إلى رغبته في تهدئة الرأي العام الثائر وقتها والمنذر بتظاهرات واحتجاجات أخرى.
والمتأمل لهذه الاحتجاجات المتصاعدة بسبب مسرحية محدودة القيمة الفنية والفكرية بعد عرضها بعامين، يثير سؤالا كبيرا حول كيفية وصول C.D العرض المسرحي لأيدي طلبة الجامعات المصرية وتوزيعه على المصلين في المساجد وإرساله بالبريد العادي لآخرين..؟! لماذا صمت من يمتلك هذا السي دي - إن كان يغار على الإسلام فعلا - لمدّة عامين..؟ ولماذا تحرك في هذا التوقيت بالذات..؟ هل لذلك علاقة بانتخابات مجلس الشعب التي كانت ستشهدها مصر في نهايات عام 2005م وكان الهدف هو زيادة الأصوات الانتخابية الموجهة إلى تيار الإسلام السياسي بحشد الناس العادية ضد الأقباط وإسكات أي صوت لهم..؟ أم هل كان الهدف إسكات الأصوات المسيحية المعارضة التي تعيش خارج مصر وخصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت تظهر في الفضائيات وتتحرك خارج حدود السيطرة الأمنية المصرية..؟ أم كان الهدف، من ناحية أخرى، إثارة ملف الفتنة الطائفية في مصر وإظهار الأقباط بأنهم مضطهدون دينيا وإنسانيا، وهو ما قد يحدث ضغطا دوليا على مصر يضمن تحقيق مكاسب أكبر لهم..؟!
 لا أحد يعرف على وجه التحديد حقيقة الأيدي الخفية المحركة لهذا الملف والمستخدمة للمسرح كأداة لعب من أجل تحقيق أهداف أخرى سياسية واجتماعية، وبعيدا عن كل هذه التأويلات هل كان لأمن الدولة في نظام مبارك دور في إثارة هذا الملف؛ ملف الفتنة الطائفية، وقتما يشاء وفي أي محافظة يريد..؟ هل يغطي ذلك على تحركات أخرى لا نعرفها؟ خاصة وأنه لن يخفى عنه ما يحدث داخل كنائس مصر، فكما أن له مرشدين داخل المساجد من المسلمين لا بد وأن له أيضا مرشدين داخل الكنائس من الأقباط.
وعلى الجانب الآخر لدى صناع ما يسمى - افتراء - «المسرح الإسلامي»، لم يأتِ أي رد فعل مسرحي منهم يردون به على الإساءات الموجهة للإسلام داخل مسرحية، بصناعة مسرحية مثلا تهاجم المسيحية، ففي مطلع هذا العام الذي تفجرت فيه المشكلة، فبراير 2005، كانت مسرحية “فيتنام 2” تواصل عروضها على مسرح فيصل ندا بشارع قصر العيني بوسط القاهرة، ولم تقم شركة «سنا الشرق» للإنتاج الفني والإعلامي بتقديم مسرحية إسلامية جديدة إلا بعد هذه الأحداث بعامين، وتحديدا في أوائل عام 2007 وعلى نفس المسرح؛ وهي مسرحية “الشفرة”، وكان موضوعها بعيدا تماما عن أي شبهة رد على مسرحية «كنت أعمى..» فقد كان موضوعها فانتازي يتخيل مصر في عام 2182، وبمسرح كوميديا الإجابة على سؤال: ماذا لو كانت مصر واقعة تحت الاحتلال في هذا التوقيت..؟!
فهل يعني عدم رد الإخوان على مسرحية «كنت أعمى...» عدم اهتمامهم إلا بما يخص مشروعهم السياسي فقط..؟ خاصة وأن معظم من أوقدوا هذه الفتنة أثناء التظاهرات كانوا ينتمون لتيارات دينية أخرى أكثر تشددا، وفن المسرح بالنسبة لهم يعتبر فعل محرّم، لذا كان ردهم هو التظاهر وصناعة اللافتات وحشد المسيرات، أما الإخوان الذين يهتمون بالمسرح ويضعونه على مائدة اهتماماتهم لم يعنِهم الرد مسرحيا.
• الأسلمة والتنصير:
يشغل هاجس الأسلمة، أو التحوّل من المسيحية إلى الإسلام، جزءا من المخيلة العامة للمسرح الكنسي، هذا في حين لا ينشغل ما يسمى بالمسرح الإسلامي بالفكرة العكسية لذلك، فمسرحياته تعالج أفكارا أخرى تخص قضايا سياسية واجتماعية لها خصوصيتها، ومعظمها لم يتعرض لفكرة تحوّل أحد الأشخاص من الإسلام للمسيحية، وكأن هذا النوع من العروض المسرحية يخشى أو يرفض من الأصل التحدث في هذا الموضوع رغم أن الواقع المجتمعي عرف خلال السنوات العشر الأخيرة أكثر من حالة خرجت من الإسلام وذهبت للمسيحية، أو خرجت من المسيحية لتدخل الإسلام، وعلى الرغم من أن هذا الأمر وارد دائما بفعل أشياء كثيرة منها قصص الحب والطمع في مكاسب مادية يوعد بها المتحوّل عن دينه من قبل بعض المتشددين دينيا من الجانبين، فإن المسرح الإسلامي لم يتعرض لقضية خروج أحدهم من المسيحية للإسلام أو العكس، رغم علم القائمين عليه أن هذا الخروج من هذا الدين أو ذاك لن يضر ولن يزيد كلا الدينين.
والمسرح الكنسي هو الذي تعرض لهذه القضية إما تلميحا أو تصريحا، ولعل أكثر النماذج الصارخة لمعالجة فكرة التحوّل الديني للمسيحيين إلى الإسلام، هي مسرحية «كنت أعمى...»، لكن هناك نماذج أخرى أقل حدّة وأقل صراخا وأكثر عمقا من مسرحية “كنت أعمى وصرت...” كمسرحية “هما راحوا فين..؟!”(29)، التي قدمها فريق برفوريوس لخدمة المسرح بكنيسة مار جرجس بمنطقة الظاهر بالقاهرة، وهي عن فكرة لناردين رامي ومن معالجة مينا حبشي وإخراج ملاك جميل، والنص المسرحي ظاهريا يحكي عن انتقال اثنين من الموظفين “سامي، دينا”  اللذين يعملان بشركة “الحنون” إلى العمل بشركة أخرى، شركة “عالمي”، هذا على الرغم من أنهما كانا يتمتعان بالكثير من المزايا لدى “الحنون”، لكنهما بعد فترة زمنية يشعران بالندم الشديد عندما يستبد بهما “عالمي” مظهرا لهما وجها قبيحا لم يتعودا عليه من قبل؛ لذا فهما يلعنان نفسيهما ويحاولان العودة مرّة أخرى لحظيرة “الحنون” لكنهما لا يستطيعان ذلك فقد فاتت فرصة الرجوع.
والمعنى الكامن وراء المعنى الظاهري يمكن التعرف عليه بسهولة، فنحن أمام اثنين من الطامعين في المكاسب الدنيوية، وهو ما جعلهما يتركان شركة «الحنون»/ دينهما المسيحي، طمعا في المكاسب التي لوّح لهما بها “عالمي”/ الإسلام، ثم يندمان على ذلك ويقرران العودة للتخلص من آلامهما لكنهما لا يستطيعان، فقد أغلق باب الرحمة في وجهيهما.
ولقد أضفى النص صفات الألوهية على طول امتداد المسرحية لشخصية “الحنون” التي لم تظهر مجسدة داخل النص، فقط ظهر صوتها في اللحظات الأخيرة، من هذه الصفات على لسان “رانيا” إحدى المؤمنات به:
 - “الحنون مش مخلينا محتاجين أي حاجة، إحنا هنا عايشين مع الحنون حاسين إننا مع أبونا الحنون واقف معاك وبيسندك في أي ضيق أو تعب أو حزن، مش هوّه إللي قال إن لو حد حس إنه تعبان أو متضايق يجيلي وأنا أريحه، هوّه إللي علمنا كل حاجة وإدانا الحب والكرامة طول ما إحنا بنطلب رضاه كل إللي نعوزه ها يجيلنا لحدنا، الحنون إللي بيعوّضنا بحبه وحنانه عن أي حب إحنا مفتقدينه ..”.
وهناك الكثير من الجمل الوصفية الأخرى وردت على ألسنة بقية الشخصيات تعطي لشخصية الحنون تجسيدا غير مرئي ليسوع المسيح، وتحيل الشخصيات الدرامية الأخرى (سامي، دينا، رانيا) إلى مجرّد شخصيات بشرية متصارعة في إرادتها، لكنها تظل واقعة تحت أسر الشخصية الكلية لـ”الحنون”، كما أن الظهور غير المرئي لـ”الحنون” في النهاية يؤكد هذه الفكرة؛ فهو لا يتحدث بكلام عادي وإنما يستمد كلماته من الكتاب المقدس سواء تصريحا أو تلميحا، فهو مثلا يقول:
 - “تعالوا إلى يا مباركي أبي... رثوا الملكوت المعد لكم من ينكرني قدام الناس أنكره قدام أبي الذي في السموات اذهبوا إلى الدار الخارجية... هناك يكون البكاء وصرير الأسنان...”.
وفي المقابل، يمنح النص صفات الشخصية المسلمة لـ”عالمي” الذي استطاع عبر دهائه وأمواله استقطاب (سامي، دينا) وغوايتهما لكي يتبعاه، فتزوجته دينا، وسرق سامي من أجله طمعا في عطاياه المادية، ومن هذه الصفات التي منحها النص لـ”عالمي”، والتي ظهرت عبر تصرفاته المباشرة، كطلبه من دينا ارتداء الحجاب:
 - عالمي: وبعدين ميت مرّة أقولك اللبس ده والمنظر ده متجيش بيه الشركة... وشعرك ده يتغطى... إحنا مش في كبارية يا هانم... بصي على إخواتك في الشركة واعملي زيهم...”.
وفي موضع آخر يستخدم “عالمي” مقولة شهيرة إعلاميا ودراميا في مصر، دالة على انتمائه المتشدد لأحد التيارات السلفية الإسلامية، عندما يقول لسامي:
 - “لا تناقش ولا تجادل يا أخ سامي”.
وتتضح طبيعة شخصية “عالمي” أكثر عبر اللحظة الحوارية التي تنهمر فيها دينا بالحكي عنه أثناء وجودها في العمل مع سامي؛ حيث تقول:
- الجواز عنده ليه مفهوم تاني غير إللي كنا عارفينه... الحب والعطاء... طاعتي ليه ورعايته هو ليا... لا لا... كل ده طلع مالوش معنى عند عالمي، وبعد ما شهر العسل ما خلص (...) ابتدى يعاملني كأني ترابيزة أو كرسي في البيت... يحطها في المكان إللي هوّه عاوزه... يطلبها وقت ما يحتاجها، ولما يزهق منها أو تقدم في عينه يرميها ويجيب غيرها بمجرد كلمة - إشارة للطلاق في الإسلام - وممكن لو مش عاوز يرميها يجيب ترابيزة تانية يحطها جنبها - إشارة لتعدد الزوجات في الإسلام...؟
وحوار «دينا» يشير بالطبع إلى فهم النص المغلوط في عموميته لفكرة الزواج لدى المسلمين، ففي مقابل تصويرها لحب “الحنون” الذي تقول عنه:
 - “هوّه فيه زي الحنون ولا حب أعظم من حب الحنون”.
نجد “عالمي” يوصف بكلمات من مثل:
 - “الوهم الكبير خوف وقلق وتعب، قدر العالمي يضحك عليا بالفلوس والمركز الجحيم...”.
منح النص المسرحي أيضا دلالة رمزية لاسمي القطبين الكبيرين “الحنون”، “عالمي”، فالحنون تعني العطوف، الممتلك للحب والعطاء، القادر على التسامح والغفران، هذا بينما ظهر اسم “عالمي” وكأنه ارتماء داخل مجتمع مادي يتميز بالقسوّة، وكأن خروج (دينا وسامي) من شركتهما/ دينهما، وذهابهما لـ”عالمي” بإرادتهما الغافلة الطامعة في المكاسب الدنيوية، هو انتقال من الدفء والحنان إلى الجحيم والضياع.
كما أن هناك دلالة كبيرة على توجه مضمون النص المسرحي إلى مخاطبة الخارجين من المسيحية ودعوتهم للعودة لحظيرتها الإيمانية مرّة أخرى، وكأن ذلك منشور ديني كنسي وُضع في قالب درامي، حيث نجد ذلك وبشكل مباشر في حديث “الراوي” الذي يظهر لمرّة واحدة في بداية المسرحية؛ حيث يقول:
- نحن لا نحاكم أحدا ولا ندين أحدا... نحن لا نريد سوى تسليط شعاع من النور على حدث يقع كل يوم حولنا... ونحن إما نيام أو غافلون عنه... ولا نرجو من الله إلا أن تساعد صرختنا تلك على قشع ضباب أعيننا وفك قيود أيدينا... وهدي أقدامنا إلى الطريق الذي يساعدنا على رد كل من شرد خارج حظيرتنا الجميلة...
وكأن النص عبر هذه الجمل يوجه اعترافا جريئا وشجاعا بأن ثمة أسلمة تقع على بعض الأقباط وبرغبتهم، وأن هذا يرجع فيما يرجع إلى تقصير رجالات المسيحية عن القيام بأدوارهم التوعوية والإرشادية الدينية المنوط بهم القيام بها؛ ولذا فهذا النص يظهر كما لو كان منشورا دراميا دينيا وعظيا يخاطب في المقام الأول الخارجين من المسيحية إلى الإسلام، وفي الثاني شعب الكنيسة بضرورة الانتباه والحذر من مثل هذا الخطر.
الهوامش:
23 - وليد عرابي/ جريدة الميدان/ 6 أكتوبر 2005.
24 - زينب عبد الله/ جريدة الأسبوع/ 10 أكتوبر 2005
25 - بتاريخ 25 نوفمبر 2011، أي بعد الثورة المصرية في موجتها الأولى/ يناير 2011 تم رفع المسرحية للمشاهدة المباشرة على يوتيوب، والرابط هو www.youtube.com / watch?v=bpp3laqaxig
وكل الاقتباسات النصية التي ستأتي فيما بعد تعتمد على الرابط.
26 - القرآن الكريم/ سورة النساء/ آية (3).
27 - القرآن الكريم/ مفتتح سورة العاديات .
28 - صحيفة الأهرام/ العدد 43432/ 4 نوفمبر 2005/ حيث قال نصًا في تصريحه «أن التحقيقات أوضحت على نحو قاطع أن الادعاءات المضللة هي التي أثارت حالة التجمهر والشغب وما ترتب عليها من أحداث مؤسفة».
29 - مسرحية «همه راحوا فين...؟ »/ قدمها فريق بورفوريوس لخدمة المسرح بكنيسة مارجرجس بالظاهر، وقد اعتمدت على النسخة المخطوطة للنص المسرحي التي أعطاها لي ميشيل ماهر.


إبراهيم الحسينى