تقرير زكي طليمات عام 1931 5

تقرير زكي طليمات عام 1931 5

العدد 550 صدر بتاريخ 12مارس2018

هذه آخر مقالة تتعلق بتقرير زكي طليمات، وهي عن أهم مجال نجح فيه زكي طليمات – في ثلاثينات القرن الماضي - وهو المسرح المدرسي، الذي قدّم فيه مذكرة مرفقة بتقريره. ويُعاب على طليمات في هذه المذكرة، عدم ذكره لاسم صديقه المرحوم محمود مراد وجهوده في هذا المجال؛ حيث يُعد محمود مراد الرائد الحقيقي للمسرح المدرسي تنظيرا وتطبيقا! لذلك سأكتب عنه نبذة في نهاية المقال؛ لعلني أفيه بعضا من حقه علينا.
التمثيل والموسيقى بالمدارس
قال زكي طليمات - في مذكرة مرفقة بتقريره - تحت عنوان (تنظيم رياضة التمثيل والموسيقى بالمدارس): «يشغل فن التمثيل والموسيقى جزءا من رياضة الطلبة في المدارس – ولكل مدرسة ثانوية فرقتها التمثيلية وجوقتها الموسيقية. وقد لاحظت عند زيارتي للمدارس الثانوية بالقاهرة في العام الماضي اهتماما جديرا بالثناء تبذله إدارة هذه المدارس وطلبتها، إلا أن مجرد الاهتمام والرغبة لا يكفيان بأن يجعلا هذه الرياضة الفنية تحقق ما يُبتغى من ورائها وهو تربية ملكة الذوق السليم في نفوس النشء ولا أتردد في القول بأن معالجة التمثيل والموسيقى بمدارسنا تجري على وجه غير صحيح تعوزه الخطة والغاية. ويلوح لي أن الوزارة في العهد السابق قد سمحت للمدارس بإقامة هذه الفرق وتشجيع النزعة الفنية لدى الطلبة ولكنها لم ترسم خطة لسير العمل ولم تتول هذه النزعة بما يكفل لها الغذاء السليم. وكل ما تتقيد به هذه الفرق التمثيلية بالمدارس في (لهوها) هذا هو استئذان الوزارة قبل إقامة حفلة يريدون إحياءها بأن ترسل لها للفحص نسخة من الرواية المزمع تمثيلها، كما أنه محظور على هذه الفرق أن تنتحل اسم المدرسة في إقامة حفلات تمثيلية أو مباريات في دور التمثيل العامة بدون ترخيص من الوزارة، هذا كل ما في الأمر. وكل ما يشعر إدارة الفنون الجميلة بوجود مسرح مدرسي هو أنها تتلقى من وقت لآخر رواية مسرحية مشفوعة بطلب فحصها وإعادتها. وليس هذا الفحص يتناول الرواية من الوجهة الفنية.
واليوم وقد قمت بفحص ما يقرب من الثلاثين رواية من هذا النوع أثناء اشتغالي في إدارة الفنون الجميلة سنة 1929 يمكنني أن أصرح بأن الأكثرية الغالبة منها على هزال فني مريع لا يمكن بأي حال أن تساعد على إشعار الطالب ماهية الفن الصحيح. ولم يكن في وسعي إصلاح شيء منها نظرا لأن مهمتي لا تتعدى فحص الرواية المقدمة من حيث الوجهتين الأخلاقية والسياسية. أما تمثيل هذه الروايات فيجري بحال ليس فيه أثر كبير من الفن الصحيح ولا عجب في ذلك فضابط المدرسة وأحيانا أحد المدرسين الهواة فيها هو الذي يقوم بتدريب أفراد الفرقة ويبرز الرواية فوق المسرح. وتلجأ المدارس أحيانا إلى الاستعانة بأحد صغار الممثلين المحترفين. ويخلو تمثيل هذه الفرق من الإلقاء الحسن وينزع دوما إلى تقليل مشهوري الممثلين المحترفين ومما لا جدال فيه إننا لا نطالب أولئك الطلبة بالتعرف إلى دقائق فن الممثل ولا نحاول أن نجعل منهم ممثلين نابهين ولكن يحسن بهم أن يقفوا على المبادئ الأولية لفن الإلقاء ليحسنوا التلاوة بصوت عال ويجيدوا إلقاء قطع المحفوظات المدرسية ليتملكوا ناصية المحاجاة والخطابة. هذا فوق التثقيف الذي يحل بمداركهم من جراء العمل في جو فني صادق.
وتعاني جوقات الموسيقى ما تعانيه فرق التمثيل المدرسية بل وأكثر من ذلك إذ إن عدم الاستقرار على منهج محدود لتعليم الموسيقى قد نشر فوضى لا مثيل لها من حيث اختيار الآلات الموسيقية وطريقة تعليم العزف عليها. ومعلمو هذه الجوقات ينتسبون إما إلى الهواة المتقدمين في فنهم لو إلى العازفين المحترفين وكلا الاثنين على علم غير موثوق بصحته. وبالاختصار فإن الرياضة الموسيقية والتمثيلية وأن وجدت اسما في بعض المدارس المصرية إلا أنها لم تتخذ مزاولتها حتى الساعة دورا جديا ولا تسير على خطة تحقق شيئا كبيرا مما يجب أن ترمي إليه. وتعاني هذه الأندية الفنية المدرسية الكثير من الفوضى في أنظمتها وفي ماليتها.
أهمية رياضة التمثيل والموسيقى في المدارس
واليوم ووزارة التعليم تعمل على ترقية الفنون الجميلة ونشر ثقافتها بين الجماهير أرى أن يتبعه قسط وافر من عناية الوزارة نحو هذه الرياضة الفنية إذ لا يخفى أنه في هذه الأندية المدرسية بين عزف الموسيقى وإلقاء المقطوعة التمثيلية يحسن بالطلبة التعرف إلى بعض مظاهر الجمال ويسيغون بوادر الفن الجميل وهذه الحقيقة الواضحة تحتم أن يكون الغذاء الفني الذي يتناوله الطلبة غير مطعون في نقاوته وإلا هزلت ملكة الجمال في نفوسهم وشبت على ذوق سقيم وهذا ما لا يساعد على إيجاد جمهور فني. أجل إن أهم ما يجب أن تحققه هذه الرياضة هو العمل على تكوين (جمهور فني) وأقصد به ذلك الجمهور الذي يعطف على الفنون الجميلة ويشجعها ويعمل لها عن عقيدة لا عن نزعة إلى التظاهر أو المحاكاة وإذا كانت الفنون البلاستيكية (Art Plastique) وهي الفنون العريقة في مصر لم تجد بعد في عنصرنا هذا الجمهور الذي يقبل على اقتناء نفائسها من الصور الزيتية والتماثيل فإن فن التمثيل – وهو الفن الحديث العهد في مجتمعنا – في شديد الحاجة إلى جمهور يقربه عنايته واهتمامه. ولعل إهمال التربية الفنية في المدارس هو الناحية الضعيفة في مجهودنا نحو ترقية الفنون الجميلة ونشر ثقافتها. وقد نوهت في حديثي عن الأسباب التي تعوق تقدم نشر فن التمثيل وترقيته بما لصغر الجمهور الفني من أثر في ذلك. ولندع المشرفين على نشر ثقافة فنون النحت والتصوير والحفر العمل على إدخال موجزات في تاريخ الفن الجميل (Histoire de L’Art) ضمن برنامج الدراسة الثانوية وكل ما أشير به فيما يخص (فن التمثيل) أنه يجمل بالوزارة أن تجعل من عمل هذه الأندية الفنية المدرسية الضالة (رياضة أسطيكية Culture Esthetique) حقة تقوم على التمثيل والموسيقى والرقص الريتميكي لها كيانها الكامل من خطط ووسائل للتنفيذ كما هو الحال مع الرياضة البدنية فتنمية الذوق السليم وارتعاش وإبعاث باعث الجمال أمران جديران بمثل العناية التي تبذلها الوزارة في سبيل تنشيط الألعاب الرياضية وفي هذا العصر الذي تقام فيه مباريات للجمال نعيش بروح زمن هو أقرب الأزمنة بالعهد الإغريقي القديم حيث كانت للجمال عبادة وثقافة ومصر بتاريخها الفني المنقطع النظير أولى الممالك بأن تتولى تنشيط هذه الثقافة بكل انواعها. ومما لا شك فيه أن سينقضي وقت ليس بالقصير قبل أن تدعم هذه (الرياضة الأسطيكية) بكامل عناصر كيانها وأرى أن أهم ما يحسن بالوزارة أن تعالجه في هذا الصدد هو إقامة (مسرح مدرسي) Theatre Universitaire بالمعنى الصحيح وهذا يتطلب مواجهة ما يأتي في الحال:
1 - أن تعلن الوزارة رسميا إدخالها (الرياضة الأسطيكية) في جميع المدارس
2 - أن تقرر على الطلبة دفع اشتراكات شهرية أو سنوية تساوي قيمتها قيمة الألعاب الرياضية (40 قرش صاغ في السنة) وذلك لإعانة الأندية الفنية المدرسية إذ إن حالتها المادية اليوم لا تساعد على تحسين العمل الذي تقوم به.
3 - أن تحدد خصائص الرواية التمثيلية المدرسية وأرى أن تكون خدمة الجمال هي الغرض الأول لهذه الروايات دون أن تخدش الآداب العامة في شيء إذ يجب ألا يغرب عن ذهننا أن الدروس الأخلاقية الجافة تعلم ولكنها لا ترقق الشعور وتنمي الذوق.
4 - أن تبدأ في تحضير هذه الروايات فتكلف لفيفا من الأدباء بترجمة مجموعة من نفائس الروايات المسرحية الغربية ترجمة صحيحة وتكل إلى طائفة من المؤلفين المصريين وضع روايات مصرية على قاعدة تضع الوزارة صيغتها وتحوطها بشروط فنية خاصة.
5 - أن تجري توزيع هذه الروايات بحال يتفق ودرجات التعليم في المدارس فيراعى مثلا في الروايات التي تخصص للمدارس الابتدائية أن تكون بسيطة الموضوع سهلة المأخذ تتفق وعقلية صغار التلاميذ. وأرى أن يكون المقام الأول لروايات رياض الأطفال والقسم الابتدائي للتربية والتهذيب أعني أن يكون المسرح في هذه المدارس تهذيبي أكثر منه (أسطيكي)
6 - أن تدخل القراكوز (Le guignol) في مدارس رياض الأطفال. وتكون رواياته الصغيرة في منتهى السهولة وتطرق أبواب التهذيب الأولي لصغار لا يتجاوز كبيرهم السابعة من عمره. واستعمال (القراكوز) كرياضة فنية وأداة للتهذيب يعم كافة مدارس الروسيا الأولية وله المقام الأول في رياضة الطلبة الأطفال في فرنسا والبلاد الإسكندافية. ولهذا النوع من التمثيل الأولي روايات كثيرة وأدب واسع.
7 - أن ينشأ إلى جانب كل مكتبة مدرسية فرع خاص بكتب ومجلات التمثيل والموسيقى. وفي انتظار متخرجي (المعهد المصري لفن التمثيل) يقوم بإدارة هذه المسارح المدرسية ذلك النفر من الممثلين الموظفين الذين سبق لهم الاشتغال في فن التمثيل ثم تركو المسرح لعدم تمكنهم من تحقيق آمالهم فيه هذا النفر موزع في دواوين الحكومة ويمكن انتدابهم للعمل في إدارة الفنون الجميلة – لينفذوا الخطة التي نرسمها لهم في هذا الصدد تحت إشراف إخصائي.
واستعمال المسرح كإحدى وسائل التعليم والمعرفة هو إحدى الوسائل الحديثة التي تتبعها بعض الممالك الأوروبية في تعليم النشء فقد ثبت أن ما يفسره المدرس بطريقة معنوية لا تطرق ذهن الطالب مباشرة في حين أن الدرس الذي تقدمه رواية تمثيلية ما يخاطب الذهن بلا وسيط وينطبع في الحس بلا عناء. لذلك استعانت بعض الديانات بالمسرح لتفسير بعض رموزها وتقريب تعاليمها للجمهور العادي فما تمثيل بروميتيه (Promethee) سوى إيضاح لبعض رموز الآلهة اليونانية القديمة وتفسر مشاهد (الرمايانا Le Ramayana) غوامض بعض العقائد الهندوستانية وكانت روايات (الميستير Mistere de La Passion) في القرون الوسطى توضح الفكرة الدينية المسيحية بجلاء أبين من أدق النظريات الخاصة بالتعليم الديني. وفوق هذا فإن الرواية التمثيلية هي خير ما يستثير مخيلة الطالب وتبعث في رأسه أحلاما لا نهاية لها يستلهم من ورائها معرفة الحياة وتعده لأن يحسن تقدير المستقبل. [توقيع] زكي طليمات 4/ 3/ 1931».
محمود مراد
الملاحظ على مذكرة طليمات خلوها تماما من اسم محمود مراد، وعدم الإشارة إلى جهوده الحقيقية، بل أساء إليها طليمات، عنما سخف منها ومن نتائجها!! لذلك سأعرف القارئ بمحمود مراد الرائد الحقيقي للنشاط المسرحي والموسيقي في المدارس المصري.
وُلد محمود مراد عام 1888، ونال شهادة المعلمين العليا عام 1911، فعُين أستاذا لتقويم البلدان (أستاذ مادة الجغرافيا) في المدرسة الخديوية الثانوية منذ عام 1915. وكان الأسلوب المتبع في ذلك الوقت، أن الطلاب يقومون بتمثيل الرواية الأجنبية المقررة عليهم في احتفال كبير أمام زملائهم وأساتذتهم وكبار رجال التعليم. وفي عام 1915 قرر الطلاب تمثيل رواية (قصة مدينتين) لتشارلز ديكنز، وهي الرواية المقررة عليهم في هذا العام. وطلبوا من أستاذهم محمود مراد مساعدتهم في إظهارها، فاختار ترجمة محمد السباعي لهذه الرواية، وشرع في تدريب الطلاب، وقسم الأدوار بينهم وعندما لاحظ رهبة الطلاب من الوقوف أمام الآخرين على خشبة المسرح، شجعهم بأن اختار لنفسه دورا في الرواية، ليقف بجوار الطلاب ممثلا ومشجعا. بل ووصل به الأمر أن جاء بابنته الصغرى لتمثيل دور تتطلبه الرواية. وحرصا من محمود مراد على نجاح روايته، استعان باثنين من خارج المدرسة هما محمد عبد القدوس ومحمد كريم المخرج السينمائي المعروف. وبعد نجاح الرواية، أنشأ محمود مراد جمعيتين في المدرسة الخديوية الثانوية، الأولى جمعية التمثيل، والأخرى جمعية الموسيقى. ومن خلال طلاب هاتين الجمعيتين، كوّن محمود مراد فرقة تمثيلية عام 1919، أطلق عليها (فرقة التمثيل والموسيقى)، استطاع من خلالها إقامة عرض مسرحي كل عام، يُقام في المدرسة أو في أحد مسارح العاصمة الكبرى. وكتابات محمود مراد المسرحية المدرسية كثيرة، منها على سبيل المثال: زهراب ورستم، الأساس فالبناء، الجزاء الحق، الابن الضال، ما وراء الستار، الابن المتبني، الوحي، في سبيل المبدأ، مجد رمسيس، توت عنخ آمون، بيت العروس، العبرة، ثريا، عضو البرلمان، سعاد، البروكة، شرف الأسرة، كليوباترا، الدخيل. هذا بالإضافة إلى مؤلفاته الجغرافية المدرسية وما ترجمه من الكتب العلمية كتشريح الميكروبات.
وأمام هذا النشاط المسرحي الكبير لمحمود مراد، وقع اختيار وزارة المعارف عليه، لإفاده إلى أوروبا للاطلاع على نهضتها المسرحية والموسيقية، ومن ثم تقديم تقرير عن هذه النهضة للاسترشاد به في العمل على تقدم الفنون في مصر. وبالفعل قام محمود مراد بالمهمة خير قيام، حيث زار مسارح النمسا وسويسرا وفرنسا وإنجلترا وأسكوتلندا وبلجيكا وهولندا والمجر وألمانيا وإيطاليا.
لم يكن محمود مراد مدرسا للجغرافيا بالمدرسة الخديوية الثانوية فقط، بل كان أيضا مفتشا للفنون بوزارة المعارف، ووكيلا لنقابة المعلمين عام 1924. كما كان أيضا أحد أعضاء لجنة فحص الروايات بمسرح رمسيس كمندوب فني من وزارة المعارف العمومية عام 1924، وكان أخيرا عضوا بلجنة مسابقة التمثيل بوزارة الأشغال العمومية عام 1925. وفي يوم الأحد الموافق 29/ 11/ 1925 مات محمود مراد ولم يتجاوز عمره الرابعة والثلاثين.. مات في ريعان الشباب، تاركا زوجة وخمسة أطفال صغار، قامت الحكومة وقتها برعايتهم رعاية خاصة، حيث تركتهم دون أي إعانة مالية!!
وقالت روز اليوسف – ونشرت في مجلتها - عندما سمعت خبر وفاته: “... لماذا يموت محمود مراد، ولم يتم عمله، ولم تكتحل عيناه بمرأى ثمار غرسه؟ لماذا يموت فنان لازلنا في حاجة إليه، وفي البلد عشرات وعشرات من (الفانين!) الذين لو ماتوا أو ابتلعتهم الأرض لما أحس أحد بغيابهم، ولما ذرفنا دمعة واحدة عليهم؟ استغفر الله! مات محمود مراد! إذن فلن أراه بعد اليوم. ولن أسمع نغمة صوته الهادئ. ولن أرى ابتسامته الحلوة ولا تلك النظرة المطمئنة يرسلها من خلف زجاج عويناته وهو يربت على كتف محدثه ويسر إليه بآماله وأمانيه”. ولقد كان محمود واسع الأمل كبير الرجاء في مستقبل الفن الجميل الذي خدمه حتى قضى في خدمته! ولسنا في حاجة إلى ذكر خدماته لفن التمثيل والموسيقى ولا ما كتب وما ألف للمسرح ولا ما أنشأ من جمعيات التمثيل. لسنا في حاجه إلى ذكر شيء من هذا، فكل من له اتصال بالمسرح يعلم حق العلم أن محمود مراد كان بين الذين قدموا للمسرح العربي في السنوات الأخيرة أكبر وأجل الخدم!


سيد علي إسماعيل