شايلوك البطل الحقيقي

شايلوك البطل الحقيقي

العدد 549 صدر بتاريخ 5مارس2018

من منا لم يدرس أو قرأ أو سمع حتى عن مسرحية تاجر البندقية لويليام شكسبير؟ إنها دراما شهيرة تروق لمزاج الكثير منا. ربما لأنها مشوقة فهذا رجل يقرض آخر مبلغا من المال وحين يعجز عن السداد فيكون رطل من لحمه هو شرط العقد وها هي المرأة الجميلة التي يطلبها الكثير للزواج فنشهد لعبة الصناديق حتى يظهر الحبيب الذي يستحقها. أو ربما لأن المسرحية تحكي عن هزيمة يهودي؟ كم نحب هذا المشهد الذي يخسر فيه اليهودي كل شيء فيشفي غليلنا من الممارسات القمعية على أراضي فلسطين المحتلة؟
ماذا لو استبدلنا شايلوك اليهودي بشايلوك المسلم؟ فلنتخيل هذا الرجل المسلم يعيش في مجتمع غالبيته يهود يمارسون ضده كل أنواع القمع. يلبسونه قنصوة حمراء ليميزونه عن الغالبية اليهودية، يبصقون في وجهه وعلى جبته وقفطانه، يسمونه كلبا أو خنزيرا، يفرحون لخسارته ويحزنون لمكاسبه. حينما تهرب ابنته وتسرقه يحتضونها ويمكنوها من ماله وحينما يخسر قضيته يصادرون أمواله ويجبرونه على التخلي عن دينه. منظور جديد ورؤية إنسانية للأحداث تجعلنا ننظر بعمق لتلك المسرحية التي كتبها ويليام شكسبير عام 1598 وتجعلنا نرى منظورا جديدا عن كيفية تقبل الآخر.
تقع أحداث المسرحية في مدينة فينيسا «البندقية» بإيطاليا، وتحكي قصة التاجر أنطونيو وصديقه بسانيو الذي كان في حاجة إلى المال للتقدم لخطبة بورشيا وحيث إن أنطونيو يمتلك تجارة ما زالت في عرض البحر فإنه يضطر للاقتراض من شايلوك هذا المبلغ مقابل ذلك يوقع أنطونيو على عقد يسمح لشايلوك في حالة فشله دفع المبلغ أن يقطع رطلا من لحمه. يخسر أنطونيو تجارته بسبب غرق السفن ويعرض بسانيو على شايلوك ضعف المبلغ المقترض ولكن شايلوك يصمم علي اخذ هذا الرطل. تنجح بورشيا في مرافعتها بعدما انتحلت شخصية محامي وتسمح لشايلوك باخذ ما له في العقد دون اراقة نقطة دم واحدة حيث إن العقد لم ينص على إراقة دماء. يخسر شايلوك قضيته بل وماله كله تصادر الدولة نصفه وتعطي النصف الآخر لابنته التي هربت مع عشيقها واعتنقت المسيحية. ويجبر شايلوك على اعتناق المسيحية هو أيضا كعقاب له.
من القليل أن تستلفت شخصية فرعية مثل شايلوك انتباه الناس هكذا. ذهب البعض لقول إن شايلوك وهو صاحب 9 مشاهد فقط في المسرحية من 5 فصول و19 مشهدا إلا أنه يعتبر البطل الخصم antagonist. فقد لاقى شايلوك تعاطف البعض وكراهية الآخر. شخصية مركبة. كيف يتم التنكيل به هكذا وإهانته والبصق في وجهه دائما ثم نجد ابنته تهرب ومعها أمواله وفي النهاية يخسر قضيته ومعها لا يخسر ماله فقط، وإنما دينه أيضا بعد أن أجبره القاضي بترك دينه والتحول للمسيحية. كيف لا نتعاطف مع كل هذا؟ وفي نفس ذات الوقت كيف لا نكرهه وهو يستغل حاجة أنطونيو لينتقم منه ويصمم على الانتقام ويشرع في قطع لحمه؟ كيف نتعاطف مع شخصية امتلأت بتلك الكراهية؟
إذا أمعنا النظر في شخصية شايلوك سنجد أن تجسيدها اختلف على مر الزمان، فلنقارن بين الشخصية كما تناولها شكسبير وكما جسدت في الأفلام والمسرحيات فيلم تاجر البندقية للمخرج مايكل رادفورد نموذجا، الفيلم كان إنتاج عام 2004، فهناك جديد في رسم الشخصية، فبمرور الوقت نجد أن شايلوك كشخصية بدأت تأخذ منحنى إنسانيا عبر السنين. والحقيقة، إن هذا المنحنى بدأ بعد الحرب العالمية الثانية مع بدء نشاط تيار معاداة السامية، فكانت المسرحية تلاقي معارضة شديدة عند عرضها كما كتبت الناقدة الأدبية الأمريكية ميشيكو كاكوتاني في مقالتها في النيويورك تايمز بتاريخ 22 فبراير 1981. فقد أوضحت كاكوتاني أن عرض قناة البي بي سي للمسرحية سبقه حالة من الغضب أعلنت عنها رابطة مكافحة التشهير وهي منظمة تعني بالحقوق المدنية ومقرها الولايات المتحدة الأمريكية، موضحة أن المسرحية تحوي كثيرا من المواقف التي تعادي اليهود كما أنها تحتوي على خطاب كراهية قوي. وبالفعل إذا نظرنا لنص شكسبير نجد خطاب كراهية قويا على لسان أنطونيو بطل المسرحية هذا التاجر الطيب الذي يقرض الناس بدون فوائد ولكنه وباعترافه يهين شايلوك ويبصق عليه، وفي نهاية المسرحية عندما يخسر شايلوك القضية يجبر على تغيير دينه ومصادرة أملاكه. فحقيقة إذن إن المسرحية بها كم من خطابات الكراهية تجاه اليهود فهل كان شكسبير معاديا للسامية؟
لنلقي نظرة على التاريخ المصاحب لكتابة المسرحية، فقد كان الجو العام نفسه معاديا للسامية. وبالعودة إلى القرن الثالث عشر وقرار الملك إدوارد الأول بطرد اليهود، قام الملك إدوارد باعتقال مجموعة من اليهود وأعدم منهم ثمانية عشر يهوديا لاتهامهم باغتيال شخصية هامة، وبعدها بدأت موجة شديدة من معاداة السامية حتى إن اليهود كانوا مأمورين بوضع نجمة صفراء لتمييزهم عن المواطنين البروتستانت حتى أعلن الملك أن اليهود خطر على إنجلترا وقام بطردهم تحديدا عام 1290. واستمرت إنجلترا هكذا حتى عام 1657 عندما سمح أوليفر كرومويل، الحاكم لمحمية الكومنويلث، لليهود بالعودة لإنجلترا ليس من منطلق حرية المواطن في ممارسة شعائر دينه وإنما لأن كرومويل وقتها كان يبني إنجلترا من جديد بعد سنوات من الحرب الأهلية، وكان معروفا أن اليهود يملكون قوة اقتصادية استخدموها في هولندا وأصبحت هولندا وقتها منافس إنجلترا التجاري، ولذلك قرر كرومويل أن يسمح لهم بالعودة للمساعدة على النهوض الاقتصادي لإنجلترا. ومن هنا نرى أن الواقع السياسي والاجتماعي كان رافضا لليهود ولعقود كثيرة. حتى العصر الذي ظهر فيه شكسبير ومارلو وهو عصر الملكة إليزابيث الأولى الذي تمتع بنهضة فنية إلا أنه كان أيضا معروفا بمعاداة اليهود والكاثوليك. وفي نهاية الأمر، فإن شكسبير يكتب لجمهوره الإنجليزي آنذاك وتلك كانت طبيعة الجمهور الإنجليزي وقتها.
فهل كان شكسبير معاديا للسامية هو أيضا؟ فعلى الرغم من الخلفية التاريخية التي أوضحتها سابقا فإنني أجد أن شكسبير ربما نصفه بالدهاء قبل أن نصفه بالعنصرية. فهل كان يملك أن يكتب أي عمل ينتصر فيه للظلم ضد اليهود، وقد كان الواقع السياسي والاجتماعي كله ضد ذلك؟ وإذا كان شكسبير يؤمن بالعنصرية وراضخا لها لماذا يكتب على لسان شايلوك كلمة هي من أجمل الكلمات في مناهضة العنصرية، كلمة عميقة تقرب الآخر إليك وتجبرك على أن تعامله بمبدأ المساواة؟ نسمعه حين يقول على لسان شايلوك إن كل الشر الذي يظهره هو رد فعل لشر المسيحيين معه.
«وستشهدون مني الغلظة التي تعلمتها منكم، بل وأشد منها إن لم يحل بيني وبينها حائل».
وكانت تلك الخطبة حجر ارتكاز مايكل رادفورد في فيلمه “تاجر البندقية” على إنسانية شايلوك. فبدأ رادفورد الفيلم بمقدمة تاريخية عن وضع اليهود في أوروبا في تلك الفترة وكيف أنه كان يمارس عليهم القمع والتمييز مع بعض المشاهد من رجال دين مسيحيين يلقون خطابات الكراهية ضد اليهود. ومنذ اللحظة الأولى للفيلم نحن نعي تماما لأسلوب رادفورد الدفاعي عن شايلوك. فمثلا المشهد الأول لشايلوك خائفا من خطابات الكراهية وفي نفس الوقت نظرة إلى أنطونيو وهو يمر بجانبه فيناديه فيبصق عليه أنطونيو. ذلك مشهد استرعى المشاهدين لقسوة أنطونيوا وفي مقابله تعاطف شديد مع شايلوك. ورغم العقد الذي أبرمه مع أنطونيو الذي يضمر فيه الشر، نفاجأ بمشهد هرب ابنة شايلوك والألم الذي ألم به لفقده ابنته وأمواله. مشهد آل باتشينو وهو يصرخ بأنين: ابنتي.. أموالي! أما مشهد الخطبة فقد جعله رادفورد خارج إحدى الحانات وفيه ظهرت الغانيات يستمعن لكلام شايلوك وقد اغرورقت أعينهم بالدموع في مشهد يقول إن الغانيات رغم احتقارهن هن أشد إنسانية من المجتمع المسيحي المنافق. قام رادفورد بإظهار الغانيات في مشاهد الفيلم الأولى وهن يمشين عاريات الصدور ليتم تمييزهن عن سيدات المجتمع الراقيات وكأنه يظهر ظلم المجتمع عموما ضد كل المهمشين.
أما مشهد المحاكمة فكان شايلوك يظهر على أنه مصمم على الأخذ بالثأر ورفض من بسانيو ضعف مبلغ العقد وكان سعيدا بالمحامي الذي أيده أن عقده سليم وأن القانون يجب أن يأخذ مجراه. ولكن، أداء آل باتشينو كان يحمل رسائل أخرى؛ تردده حينما أمسك بالسيف ليقطع لحم أنطونيو وكأنه نفسه لا يريد ذلك ولإظهار مدى التوتر الذي هو فيه، نجده يصرخ في نفس الوقت الذي صرخ فيه المحامي ليتوقف في لحظة معبرة جدا عن التوتر. وحينما قال المحامي إنه لا يستطيع أن يسكب نقطة دم واحدة ولاستحالة الأمر لم يحاول شايلوك في الفيلم أن يدافع عن موقفه أو يحاول أي محاولة لإنفاذ العقد وإنما يقول «حسنا، سآخذ المال»، وهنا يظهر مرة أخرى وحشية المجتمع ورجال القضاء، فهم من تظاهروا بالعدل حينما أعطوا شايلوك حقه في العقد طبقا للقانون وما أن وجدوا الثغرة فلم يكفِهم أن منعوا شايلوك أن يأخذ أي مال من باسانيو، وإنما تتم مصادرة أملاكه كلها! نصف للدولة والنصف الآخر لابنته جيسيكا التي هربت منه من قبل وسرقت أمواله وتحولت للمسيحية. فجيسيكا لم يعتبرها القانون سارقة لأنها سرقت من يهودي ولأنها الآن مسيحية. ولم يقف الظلم عند هذا الحد، بل أجبروا شايلوك أن يتنازل عن دينه عبر عنها آل باتشينو بأداء بارع يظهر الحسرة والأم وهو يمسك بقلادته الدينية بشدة وينحني على الأرض صادرا أنينا مسموعا. وهكذا يظهر هذا المجتمع على حقيقته وحتى بورشيا التي ظهرت كسيدة من النبلاء، ولكن أي نبل في سرقة أموال الآخر وأي نبل في إجباره على ترك معتقده الديني؟ وأين بطولة أنطونيو وهو لم يفعل شيئا طوال المسرحية سواء خطابات الكراهية ضد الآخر، والبصق والإهانة ثم السعادة عندما انتصر على شايلوك ظلما. ألم يكن الأجدى أن يرجع المال الذي اقترضه من شايلوك إليه بعد المحاكمة؟ ألم يكن أوجب أن يطالب بالعدل؟
رغم كراهية شايلوك لأنطونيو وتفكيره في الانتقام فإن المسرحية سواء كما كتبها شكسبير أو كما صورها مايكل رادفورد في الفيلم، أظهرت شايلوك في مظهر الضحية، أو المجني عليه. فالتاريخ أنقذ شكسبير من تهمة كالعنصرية وبراعته وذكاؤه في تجسيد الشخصية بشكل لم يستشعر معه الجمهور الإنجليزي آنذاك أنه يدافع عن اليهود أو أنه يرفض الظلم للآخر أيا كان. فالخطبة الشهيرة كانت نقطة ارتكاز قوية بدونها لم يستطع المخرجون من إعطاء المسرحية تلك اللمسة الإنسانية!
 


شيرين جاد