السيرة الهلامية اسم على مسمى

السيرة الهلامية اسم على مسمى

العدد 547 صدر بتاريخ 19فبراير2018

منذ فترة بزغ اسم محمد الصغير باعتباره محرجا مسرحيا واعيا ومتمكنا، وذلك من خلال دورة من دورات المهرجان القومي، ومنذ ذلك الحين حافظ «الصغير» على نهجه في الاعتماد التام على المحاكاة التهكمية، فهو كان يتناول نصوصا مسرحية معروفة، ثم يقوم بكل بساطة بمحاولة نسف كل ما هو متواتر عن تلك النصوص من خلال الإخراج فقط. نعم، هو في بعض التجارب وضع الكثير من المناطق الغنائية داخل ثنايا العمل أو إطارا له، ولكن كان تشابكه أو اختلافه مع النص الأصلي يقوم على طريقة الأداء والنظرة الإخراجية المتمثلة في مناطق تفعيل النص ذاته على خشبة المسرح. ومن وجهة نظري، أرى أن «الصغير» بدأ في قمة رسمه البياني، ولكنه لم يستطع لاحقا أن يخرج بهذا الرسم صعودا أو حتى الحفاظ عليه، ولكن كل المؤشرات بعد جائزة المهرجان القومي كانت تتجه نزولا، ولكنها في الوقت نفسه كانت تقف عند الجودة من ناحية، ومن أخرى كان الإصرار على هذا النهج، إن صحت التسمية؛ أي نهج السخرية والمحاكاة التهكمية.
ولكن في هذه المرة (ومن خلال مسرح الطليعة هذه المرة وليس من المسرح الجامعي كما تعود)، حاول الصغير أن يتخذ نفس النهج مع تغيير المعطيات أو المسببات، فقدم عرضا باسم “السيرة الهلامية”، صحيح أن النص يعتمد على هاملت لشكسبير، ولكن الصغير هذه المرة أتى بمؤلف هو الحسن محمد، ربما ليعيد صياغة نص شكسبير كما يراه هو بعد أن تكاسل عن القيام بالدور الذي كان يقوم به سابقا، وربما كان نص الحسن محمد موجودا وتصادف أن وجد به الصغير به غايته.
وأنا عن نفسي أفترض الذكاء والوعي في المخرج، وعليه فالنتيجة النهائية التي لا بد منها لهذا العرض كانت مقصودة، حتى لو تمثلت في إحراق كل السفن التي تصلنا بالفن المسرحي، فهو اعتمد نهجه في المحاكاة التهكمية، ولكننا قبل أن يكون لنا حكم فيما رأيناه يجب أن نستعرضه أولا، فنحن أمام مجموعة من الممثلين يقدمون عرضا مسرحيا، أي تقنية المسرح داخل المسرح موجودة بل إن هناك الكثير من الخروج عن طريق التحدث مع المتفرجين أو طلب بعض الأشياء والمؤثرات من القابعين في عرفة التحكم، مع وجود فرقة موسيقية في الخلف؛ وهي وإن كان لها وظيفتها المسبقة قليلا، إلا أنها في الغالب ما تنفذ ما يطلبه الممثلون؛ أي أن العشوائية اتخذت سبيلا وربما غاية في الوقت نفسه!
كما قلنا تكك الاعتماد على قصة هاملت، ولكنها وضعت في مناخ جنوب مصر، وعليه فإننا نسأل أنفسنا على أي شيء تهكم الصغير ومعه الحسن؟
هل تهكم على السيرة الهلالية وراوتها ومستمعيها من خلال الاسم؟ حيث الاختلاف هنا هو حرف واحد فقط، ولكن كان وضع لعرضه اسما آخر ما اختلف المحتوى ولا النتيجة، إذن سيكون هذا التشابه مقصودا؟
هل تهكم على عملية الثأر ومحاولة الأخذ به؟ وأدواته ودوافعه من حلال التصوير الكاريكاتوري للشبح والد هاملت ووالدة هاملت نفسها التي قام بدورها رجل؟
هل تهكم على ما يفعله البعض من المخرجين انسياقا أو انصياعا أو تقليدا أعمى لما يسمى (ما بعد الحداثة) عن طريق تفكيك الشخصية لأكثر من مؤد، كما فعل مع هاملت الذي جعل منه ثلاثا دون ضرورة تذكر سوى التهكم؟
هل تهكم على الممثلين في عمومهم في تبيان طريقة تعاملهم مع الأدوار ومحاولة أخذهم ما يسمى بالمناطق القوية على خشبة المسرح، والافتعال المبالغ به في طرق الأداء لجلب التصفيق من الجمهور.. إلخ؟
الحقيقة أن ما وصل للجمهور القليل الذي شاهدنا معه العرض هو الكثير جدا من النكات، وللأسف لم يضحك عليها الغالبية، مع أنها اتخذت في الغالب شكل (الاستاند أب كوميدي)، القليل الذي ضحك هم جموعة من الممثلين الزملاء أو العاملين بالمسرح، وخصوصا في المناطق التي يتهكم فيها على العملية التمثيلية ذاتها، ولكن للأسف هذا حدث دون أن يجعلهم المخرج يفطنون للحقيقة ألا وهي أنهم في الغالب يضحكون على أنفسهم.
كما قلنا، واتساقا مع الاسم، لم يكن هناك أي رابط ولا معنى عام من الممكن أن تلمحه، وفي الوقت الذي حاولت أن أغافل فيه نفسي وأحاول البحث عن مسميات لهذا الذي رأيناه أمامنا سواء عن طريق أسلبة وإعادة تقديم بعض النصوص الشهيرة عن طريق السخرية منها، أو محاولات السعي وراء التهكم والجروتسك.. إلخ. ولكن، والحمد لله، كنت أشاهد العرض بمعية معلم لأساتذة فن الدراما في مصر والعالم العربي، الذي قطع عليّ إبحاري في محاولة البحث عما لا وجود له متسائلا عن ماهية الذي رأيناه؟ وهل نحن فعلا في مسرح الطليعة؟
فالخلاصة، إننا فعلا كنا أمام ليلة هلامية لا تستطيع أن تخرج منها بشيء يذكر، ولكن في الوقت نفسه من الممكن أن تلمح بعض البلورات التي من الممكن أن تتشكل ويكون لها وجودها وتماسكها لو خرجت من هذا الهلام.
على سبيل المثال المجموعة الموسيقية كانت جيدة والمؤلف الموسيقي محمود وحيد يملك القدرة على إنتاج جملة موسيقية خاصة به، ولا أعرف إن كان قاد بالتوزيع أيضا أم لا؟ ولكن التوزيع الموسيقي كان جيدا.
أيضا الممثلون، صحيح أنهم في أحيان كثيرة أشعرونا بالغثيان، ولكن هذا تم لأنهم فعلوا ما طلب منهم بأمانة. فالحقيقة، ومع أنهم في غالبيتهم من الشباب إلا أنهم يملكون القدرة والموهبة التي تجلت في ومضات قليلة خف فيها الهلام من سطوته، والقادر على نقل هذا لهو أكثر قدرة على نقل المتماسك الذي له قوام.
ليكون آخر حديثنا أنني أعتقد أن النتاج العام للعرض لم يكن مفاجئا لمحمد الصغير، فإن كان البرتو مورافيا قد سر عندما واجه الجمهور مسرحيته (الملل) بالكثير منه، فإن الصغير قدم ليلة هلامية وقد صدق.


مجدى الحمزاوى

mr.magdyelhamzawy@gmail.com‏