الأداء المسرحي شروط وآليات

الأداء المسرحي شروط وآليات

العدد 537 صدر بتاريخ 11ديسمبر2017

 خامسا: الشروط الضرورية اللازمة للأداء المسرحي
إن لم يكن الأداء المسرحي تفسيرا للنص المكتوب، ما هو إذن؟ وأجيب على هذا السؤال بتحديد الشروط الضرورية اللازمة للأداء المسرحي. ولا أريد أن أدعي أن الأداء المسرحي له جوهر مستقل عن التجارب الإنسانية الفردية. فالمسرح، بالطبع مثل كل الفنون، هو فن تقليدي إلى درجة أنه ممارسة اجتماعية قابلة للتغير عبر الزمن والثقافات. ورغم ذلك، كم أن هناك فرقا مثلا بين التقاليد الفنية والدينية يسمح لنا أن نميز بين نوعي الممارسة على الأقل بشكل أولي. لذلك، أعتقد أنه يجب أن يكون هناك فرق بين الأداء المسرحي وأنواع الأداء الأخرى. وبحثي عن الملامح الضرورية هو بحث عن الملامح التي تسمح لنا أن نجمع ممارسات معينة تحت عنوان «المسرح»، بينما نستبعد ممارسات أخرى، من أجل تلك الملامح التي تندرج تحتها كل التقاليد المسرحية الممكنة. إذ لا يمكن أن نحصل على الأدب في غياب تام للغة، أو الموسيقى في غياب تام للصوت.
فما هي الشروط الضرورية للأداء المسرحي؟
فيما يلي سوف أوضح أن الأداءات المسرحية لا يمكن أن توجد بدون:
 مؤدٍ واحد ومشاهد واحد على الأقل في نفس المكان والزمان.
 يتظاهر المؤدي بأن التفاعل بينه وبين المتلقي يختلف بشكل ما عما يحدث فعلا.
 يعي المتلقي أن هناك محاكاة (أو تمثيلا) يحدث.
وكلنا نملك البديهة الأساسية لمعرفة الأداء المسرحي وما هو غير ذلك. تتطور هذه البديهة من خلال خبرتنا بمختلف التقاليد المسرحية. وسوف أحاول أن أوضح هذه البديهة ببحث الفرق بين الأداء المسرحي والممارسات المشابهة له. وبالنظر إلى الحالات الفاصلة في المسرح لكي نفهم لماذا تكون حدودا فاصلة بالضبط.
بتحليل أي شكل فني، لا شك أن أحد الأسئلة الأساسية هو «ما هو الوسيط الذي يقدم من خلاله هذا الشكل الفني؟ فالقصائد تصنع من اللغة، واللوحات تصنع من استعمال الألوان على الأسطح. وتنشأ الموسيقى من الصوت – الذبذبات المسموعة في الهواء. فما هو وسيط الأداء المسرحي؟ الأداء المسرحي كما يوحي اسمه يتكون من الفعل. ويمكننا أن نجرد المسرح من كل تجهيزاته – النص والمخرج ومبنى المسرح والديكورات والأدوات – ويظل لدينا مسرح. وما لا يمكن التخلص منه هو الممثل بالمعنى الحرفي للشخص الذي يؤدي نوعا من الفعل. لذلك، فإن وسيط المسرح – المادة الأساسية التي يصنع منها المسرح – هو الفعل البشري. ولكن هذا يؤدي بنا إلى مشكلة، وهي تحديدا أن الفعل البشري هو أيضا وسيط الحياة اليومية. فكيف نميز الفعل البشري في الحياة اليومية عن الفعل البشري الذي يصنع الأداء المسرحي؟
نستطيع الإجابة على هذا بتأمل إمكانية أن يؤدي شخص أمام شخص آخر. وماذا لو افترضت أن تنظيفي لشقتي ينشئ عرضا مسرحيا؟ فهل هناك وسيلة لدحض هذا الزعم؟ يبدو أننا نحتاج على الأقل إلى إعداد حركتنا لإنشاء أداء مسرحي ولكي تكون هذه الحركات عرضا مسرحيا. وبدون ذلك يستحيل علينا التمييز بين الأداء المسرحي والفعل اليومي العادي، ويفقد المفهوم معناه. لذلك دعونا نقول إنني أنظف شقتي في مناسبتين منفصلتين. وأنوي في المناسبة الثانية أن يكون التنظيف أداء مسرحيا. فماذا يمكن أن يعني هذا؟ إنه يعني أنني في المناسبة الثانية واعٍ ذاتيا أنني أنظف شقتي – أشاهد نفسي وأنا أنظف.
وهنا يمكن أن نقول إن كل أداء مسرحي يتكون من وظيفتين أساسيتين: العرض والمشاهدة. لذلك يمكن أن نقول إن كل أداء مسرحي يحتاج إلى شخص يعرض وشخص يشاهد ما يعرضه له الشخص الأول. ويمكن أن يؤدي شخص واحد كلتا الوظيفتين – إذ يمكنني أن أكون مشاهدا لأدائي. ورغم ذلك تقسّم هذه الوظائف بشكل نموذجي بين أفراد مختلفين. فالعرض والمشاهدة ضروريان للأداء المسرحي ولكنهما ليسا كافيين، لأننا نستطيع أن نفكر في كثير من أنواع الأداء الأخرى، ونستطيع أن نتأمل بالطبع كثيرا من الفعاليات الأخرى التي ترتبط بالضرورة بالعرض والمشاهدة. ودعوني أميز الآن الأداء المسرحي عن الأداءات الأخرى المماثلة، وهي السينما والبث التلفزيوني المباشر والخطب.
يكمن الفرق بين الأداء المسرحي والسينما في أنه في الوقت الذي يشارك فيه المؤدون والمشاهدون في المسرح في نفس المكان والزمان، فإن السينما أداء مسجل حدث في مكان وزمان آخر. وفي حالة البث التلفزيوني المباشر – مثل كوميديا الموقف Set - com، أو برامج الأخبار أو المباريات الرياضية.. إلخ – فإن المشاهدين والمؤدين يوجودون في زمن واحد معا، لكنهم منفصلون ماديا. وفي بعض البرامج التلفزيونية يوجد مشاهدون في الاستوديو ومشاهدون عبر التلفزيون. المشاهدون في الاستوديو يشاهدون أداء مسرحيا، بينما لا يكون المشاهدون عبر التلفزيون كذلك بالطبع. فمشاهد التلفزيون يشاهد ما تقدمه الكاميرا، بينما يرى المشاهدون الموجودون في الاستوديو كل ما يحدث فيه، ومشاهدو التلفزيون موجودون في أماكنهم بينما يجلس مشاهدو الاستدوديو معا في مكان واحد. ويستطيع مشاهدو التلفزيون أن يسجلوا الأداء ويشاهدوه عدة مرات، بينما لا يستطيع مشاهدو الاستدديو استرجاع الأداء الذي يشاهدونه. الأهم من هذا كله أن ردود أفعال مشاهدي الاستوديو تساهم في مادة الأداء، لأن المتلقين يعون ردود أفعالهم ويتعاملون معها، أما ردود أفعال المشاهدين الموجودين في بيوتهم فإن ردود أفعالهم ملزمة لهم وحدهم فقط.
مغزى هذه الفروق أن المشاهدين والمؤدين في المسرح يجب أن يتباروا فيما بينهم بطريقة لا يمكن أن تتاح للمشاهدين والمؤدين في السينما أو التلفزيون المباشر. مع ملاحظة أن المؤدين يجب أن يتباروا فيما بينهم في مكان وزمان مشترك، وهذه طريقة أخرى نقول بها إن المسرح أداء حي. ولكن لماذا يجب أن تتميز هذه الحيوية بالتنافس. افرض أن الأداء يحدث في مكان ينفصل فيه المشاهدون عن خشبة المسرح بحاجز زجاجي من ناحية واحدة، بمعنى أن الحاجز يسمح للمشاهدين برؤية وسماع كل شيء على خشبة المسرح، ويخفيهم عن الممثلين أيضا. فهل يمكن أن يكون ذلك مثالا لعرض مسرحي حي؟ يمكن أن يكون كذلك فعلا بمعنى محدد. الأداء يتعلق بممثلين ومشاهدين في نفس المكان، فهو ليس مصوّرا بكاميرا سينمائية، أو منقولا إذاعيا، وقد توجد فيه مسرحية مكتوبة. ومع ذلك يمكنني أن أبرهن أن التجربة الجمالية للأداء من وراء حاجز زجاجي أقرب إلى تجربة مشاهد التلفزيون الجمالية. لأننا في البث التلفزيوني المباشر، ليس لنا دور نلعبه في الأداء مثل هذا المشاهد. وربما نغادر القاعة أثناء الأداء، بمجرد إغلاق جهاز التلفزيون، ويظل الأداء موجودا دون تغيير. وفي الأداء المسرحي المألوف (بمعنى الأداء دون حاجز زجاجي بين المشاهدين والمؤدين) فإن حضور المشاهدين واستجابتهم لها تأثير كبير على صفة الأداء، وحتى لو لم يؤثروا في المؤدين بصريا، فإنهم يشعرون أنهم مؤثرون.
لذلك، يجب أن تتعلق الحيوية الجمالية المميزة للعرض المسرحي بالتفاعل بين المؤدين والمتلقين. وإنكار هذه النقطة يعني غياب التمايز بين المسرح الحي والبث التلفزيوني المباشر، ويشوه الفرق الجمالي المهم بين هاتين الممارستين. وتعد أشكال الخطابة، مثل المحاضرات الأكاديمية وانعقاد الجمعيات العمومية، أداء حيا مثل المسرح تماما. فكلاهما يتعلقان بالمشاهدين والمؤدين الذين يشاركون في نفس المكان والزمان، والذين يجب أن يتفاعلوا فيما بينهم. فكيف نميز بين هاتين الممارستين؟ أول اقتراح هو أن الأداء المسرحي ينقل خيالا، بينما تنقل الخطب فعلا حقيقيا. ورغم ذلك، صحيح أن كثيرا من المسرح يتعلق بنقل خيال، فإن أغلب الخطب (أكاديمية أو سياسية أو تحفيزية) تنقل حقائق وآراء يقصد أن تكون حقيقية، وهذا الاقتراح يواجه بعض الصعوبات.
أولا: تنقل بعض العروض المسرحية الحقيقة، مثل صور الأحداث التاريخية المصورة أو سيرة ذاتية لشخصية.
ثانيا: يظهر الخيال فجأة في كل أنواع الخطب، فمثلا، إذا بدأ مجلس الجامعة اجتماعه بحكاية صادمة، أو حكي أستاذ الفلسفة لطلابه حكاية عن المخ أثناء التنبؤات لكي ييسر عليهم تجربة فكرية.
لذلك لا يمكن استخدام الخيال لتمييز المسرح الحي عن الخطبة، لأن الخيال يمكن أن يوجد في الخطبة ويمكن أن يغيب في العرض المسرحي.
الطريقة الأخرى لتمييز الأداء المسرحي عن الخطبة هو أن نقول إن الأداء يتم بناؤه كسرد، بينما يمكن توظيف الخطبة كسرد ولكن لا ضرورة لذلك. ومفهوم السرد، تاريخيا، هو المفهوم المستخدم غالبا لتعريف الأداء المسرحي. إذ يزعم (ديفيد سولتز) أن أغلب المنظرين يوافقون على أن المسرح، باعتبار أنه يمارس على نحو تقليدي في الغرب، يتكون من ممثل أو أكثر يؤدي مسرحية لجمهوره، وهو الأمر الذي يستتبع نقل سرد. ومع ذلك، هناك أمثلة لعروض مسرحية لا تستخدم أي نوع من السرد، إن لم نوسع مفهومنا للسرد حتى يضم أي شيء له بداية ووسط ونهاية. وتصور بعض أعمال مسرح العبث في الخمسينات والستينات، مثلا، مشاهد مختصرة أو لوحات مجمعة بدون استخدام السبب والنتيجة المعرفين في السرد، لكنها تقدم فكرة أو حالة مزاجية. وكذلك الحال في الاسكتشات التي تقدمها فرقة Second city في شيكاجو أو فرقة new futurists، وهي فرقة معروفة باستخدام إضاءة شديدة قد تصيب بالعمى. ومثل هذه الأداءات لا تعد على أساس أي نوع من السرد الموحد، رغم أن بعضها سرديات مصغرة، والبعض الآخر ليس كذلك. فإذا كان أسلوب العبث النقدي والاسكتشات الكوميدية يعد أداءات مسرحية، عندئذ لا يمكن أن يكون السرد ضروريا للأداء المسرحي، ولا يمكن أن يساعدنا في تمييز المسرح عن الخطبة.
ربما لا يندرج الفرق بين المسرح والخطبة تحت أي فرق بنيوي بين الممارستين، لكنه بالأحرى، وظيفة للقصد التي يوصل أي ممارسة. فمثلا، عندما أقدم محاضرة أنوي تقسيم المعلومات لجمهور الحاضرين. وعندما أمثل في مسرحية فإنني أنوي أن أقدم لهم تسلية. وفي كلتا الحالتين، أقدم أداء حيا لمشاهد يشاركني نفس المكان المادي. إذن يميز القصد ووعي المشاهدين بين الفعاليتين. وأعتقد أن هذا الاقتراح لا يصلح أيضا. المشكلة هي أن الأداء المسرحي نادرا ما يحدث بقصد منفرد. فالمسرحية قد تكون معنية بالتسلية وتقسيم المعلومات، وتسلي وتعلم وتنفد وتحرض. هناك في الواقع تنوع كبير في القصد الذي يمكن تطبيقه على الأداء المسرحي، وقد يلتزم كل أداء بعدد من هذه النيات في نفس اللحظة. وبالمثل، يتم إلقاء الخطب بمجموعة واسعة من النيات. فالخطبة قد تلقى لتقسيم المعلومات، وقد تقصد أيضا أن تثير المشاهدين أو تطمئنهم أو تحفزهم، أو قد تسعى إلى تقديم المعلومات والتسلية في نفس الوقت. فكيف يمكننا إذن أن نميز القصد في الخطبة عن القصد في المسرحية؟ وبالطبع، كيف يمكننا أن نخمن بالضبط أي قصد ينطبق على أي لحظة من لحظات الأداء؟
أعتقد أن الفرق بين الأداء المسرحي والخطبة يقع في النهاية تحت الفرق البنيوي بين الممارستين. وبعزل هذا الفرق، دعونا هنا نتأمل ممارسة يبدو أنها على حدود المسرح والخطبة، وهي رواية الحكايات. وأمامنا هنا الممارسة التي يمكن أن تشبه في حالات بعينها الأداء المسرحي. فرواة الحكايات قد يتحركون في الغرفة وهم يحكون، وقد يتقمصون أصوات شخصيات مختلفة ويقلدون حركاتهم، وقد يستخدمون بعض الأدوات ونوعا من إعداد المشاهد. ومن الناحية الأخرى، قد يحاكي بعض رواة الحكايات أشكال الخطب ومحاضرات التاريخ. فاسترجاع معركة قد يبدو لشخص لا يعرف مادة الحكاية مثل نوع من الأداء. فرواية الحكايات الذي يشبه جدا الأداء المسرحي يتعلق بتجسيد الشخصيات. ومعنا هنا مفتاح لغز الفرق بين الأداء المسرحي والخطبة.
ماذا يعني تجسيد الشخصية أو أداؤها بالنسبة للممثل؟ الأمر في أبسط أسسه يعني أن الممثل يتظاهر أنه شخص آخر مختلف عن الممثل الذي يؤدي أمام المشاهدين. ويصدق هذا على كل الأداءات المسرحية. ومن السهل أن نرى التظاهر في كل العروض التي يؤدي فيها الممثلون الشخصيات. ورغم ذلك، هناك عروض مرتجلة يؤدي فيها الممثل دوره الفعلي في الحياة (يقدم ذاته للمشاهدين). وهنا يمكن معنى التظاهر أن الحبكة تحدث في مكان آخر، أو أن المشاهدين غائبون، أو أن المشاهد ليس هو نفسه مشاهد الأداء المسرحي. ويجب توضيح بعض أنواع التظاهر لتمييز الأداء عن بقية الموجودين معا في نفس المكان.
الآن، نفرض أن هناك زوجين يعرضان مشهدا في مطعم عن زوجين – هما نفساهما - يتناولان العشاء في هذا المطعم فعلا. أين التظاهر في هذا الأداء؟ وإذا كان زبائن المطعم الآخرون (أو بعضهم على الأقل) يعرفون أن هناك أداء يحدث، عندئذ ينشأ التظاهر من حقيقة أن الزوجين لا يعترفان على مدار الأداء أنهما يتناولان وجبة طعام ويعرضان للآخرين كيف يتناولانها – ويتظاهران أن الوضع السابق هو الحالة. فإذا لم يعرف الزبائن أن هناك أداء يجري، فإن الممثلين في هذه الحالة هما كل الجمهور. وفي هذه الحالة يكمن التظاهر في حقيقة أنهما لا يعترفان أنهما يتناولان الطعام بل يؤديان عرضا (من الواضح أنهما إذا أديا المشهد معا، فلا بد أن يعترف كل منهما للآخر بما يفعله قبل الشروع فيه). بدون هذا التظاهر لا سبيل إلى تمييز أداء تناول الطعام عن فعل تناول الطعام العادي. لاحظ أن أيا من الحالتين، يجب أن يعي المشاهدون بهذا التظاهر لكي يكونوا مشاهدين: التظاهر بالنسبة للمشاهدين غير الواعين به يمكن أن يعد نوعا من الخداع.
لذلك، يعني التظاهر المسرحي أن المؤدين يتظاهرون أنهم ليسوا مؤدين، وأن الأداء يحدث في مكان آخر، أو أن المشاهدين ليسوا من مشاهدي الأداء، أو أنه لا يوجد قصد لعرض الأحداث، علاوة على ممارستها، أو ربما مزيج من هذا كله. علاوة على ذلك، يجب أن يعي المشاهد أن هناك تظاهرا وأنه يشارك فيه.
ودعونا نشحذ مفهوم التظاهر بتأمل بعض الأهداف المحتملة. فلو فرضنا مثلا أن الممثلين في المسرح البريختي الملحمي يؤدون شخصياتهم بوعي ذاتي، وأنهم يقتبسون كلماتهم مع الأداء ليستخدموها كتعليق على الشخصيات التي يؤدونها، فأين التظاهر في هذا النوع من التمثيل؟ هدف المسرح الملحمي هو إبعاد المشاهدين عن استجاباتهم التقليدية للعرض المسرحي بغرض جعلهم يفكرون بشكل نقدي في مادة المسرحية ومكانتها كعرض ودور المشاهد كمتلقٍ لها. ولا شك أن أسلوب التمثيل النقدي الواعي بذاته الذي يؤيده (بريخت) هو أداة تستخدم لتحقيق هذه العلاقة النقدية التي يسميها «الاغتراب Alienation». إذ لا يريد (بريخت) أن يتوحد المشاهدون بالشخصيات بشكل أعمى، بل أن يفكروا فيها، ويعتقد أن تذكير المشاهدين أن الشخصيات التي يؤديها الممثلون سوف تساعد في حدوث هذا. بمعنى أنه يمكن أن نقول إن فكرة التمثيل بوعي نقدي ذاتي، أو بضمير الغائب هو من أجل تذكير المشاهدين بالبنية الأساسية للمسرحانية – تجسيد الشخصيات بواسطة كائنات بشرية حية. فالممثلون في المسرح البريختي لا يعلقون صراحة على شخصياتهم، بل يكون تعليقهم مضمرا بالأحرى في الطريقة التي يؤدون بها شخصياتهم. ويريد (بريخت) أن يتذكر الممثلون أن الشخصيات منفصلة عن الممثلين الذين يجسدونها، ولكن إذا كان الأداء ممنوعا تماما من التجسيد فعندئذ لا توجد علاقة بين الممثلين والشخصيات، ولن ينشأ التوتر الفعلي الذي يفترض أن يوضحه التمثيل البريختي رغم ذلك.
ولكن، ألا توجد أمثلة في المسرح لا يتوجه فيها الممثلون إلى الخروج عن شخصياتهم ويتكلمون بأصواتهم مباشرة إلى المشاهدين؟ وهل لا يمكننا أن نتخيل مسرحية يتوقف فيها الحدث عند لحظة معينة ويصعد المخرج إلى خشبة المسرح لكي يشرح الحدث ويعلق عليه؟ بمعنى آخر من المستحيل على الأداء المسرحي أن يتكون من لحظات التجسيد والخطابة ويتأجل التظاهر المسرحي؟ وأسلم بأن هذا ممكن، بمعنى أننا من الممكن أن ندمج تمزيق المسرحانية أثناء الأداء المسرحي، كما أنه من الممكن أن تؤدي المسرحية كجزء من محاضرة، أو يكون لدينا عرض للبالية مقحم على قراءة للشعر، أو أن نقدم بعض الزيف في مؤتمر صحفي. حقيقة أنه يمكننا أن نجمع مزيجا من الأشكال الفنية أو وسائل الاتصال لا يعني أنه لا توجد فروق بين هذه الأشكال الفنية أو وسائل الاتصال. علاوة على أن الاغتراب البريختي يعمل إذا حضر التوتر بين الممثلين والشخصيات فقط (توتر يتولد من التظاهر)، وكذلك حضور المخرج على خشبة المسرح يكون مؤثرا لأنه يكسر التظاهر (التمثيل) الذي يقوم عليه الأداء.
سادسا: الخلاصة
نخلص إلى أن الشروط الضرورية للأداء المسرحي هي الحيوية والتمثيل. وتشير الحيوية إلى الممثلين والمشاهدين المشاركين في نفس المكان. لذلك فإن الحيوية اختزال للشروط الثلاثة الضرورية وهي:
(1) شخص يعرض   (2) شخص يشاهد (3) حضورهما معا في نفس المكان والزمان
يشير التجسيد إلى أن التظاهر بأن الأداء هو شيء مغاير لتقديم ذاته. فقد يكون التظاهر بأن الممثلين لا يقدمون ذواتهم، بل يقدمون شخصيات، أو أن الحدث هو شيء مغاير لما هو موجود فعلا، أو أن الحدث يدور في مكان مغاير للمكان الذي يفترض أن يدور فيه فعلا، أو أن المشاهدين غائبون، أو أن المشاهدين ليسوا هم نفس الذين يشاهدون الأداء. التجسيد ليس فقط اختزال لمختلف الطرق التي ينفتح بها التظاهر، بل أيضا من أجل حقيقة أن كل المؤدين والمشاهدين يجب أن يكونوا واعين بهذا التظاهر.
فلا التمثيل ولا الحيوية بذاتهما كافيان للأداء المسرحي. بل اجتماعهما معا كافٍ تماما. والتجسيد دون أن يكون حيا هو ما يميز التلفزيون والسينما. والحيوية بدون التمثيل تميز كل أنواع الخطب. ولذلك، أخطأ (بيتر بروك) عندما قال إن كل المطلوب لفعل المسرح هو مساحة خالية وممثل ومشاهد. لأننا يجب أن نعرف لماذا تسير امرأة على خشبة المسرح، ولما تكون مرئية قبل أن نميز الحدث بأنه أداء مسرحي.
يمكن أن يوجد المسرح بدون كلام ومشاهد وإضاءة وملابس وأدوات أو موسيقى. والنصوص ليست ضرورية وكذلك مباني المسارح المتخصصة. باختصار، إن وجود مشاهدين وممثلين على جانبي المساحة الخالية المشتركة هو الضروري لاستمرار الأداء المسرحي. ووجود خشبة المسرح في مساحة مشتركة ليس كافيا لأن هناك أحداثا تجري على منصات لا تعد مسرحا (مثل المزادات وتسليم الجوائز والاحتفالات والخطب السياسية). الحضور المسرحي هو شيء خاص لدرجة أنه يتعلق بمحاولة من جانب المشاركين لخلق واقع نتيجة لحضورهم المشترك.
 - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
ديفيد أوسيبوفيتش يعمل أستاذا للفلسفة بكلية مارست Marist في بوكسبي في ولاية نيويورك.
 نشرت هذه الدراسة في Journal of Aesthetics and Art Criticism في العدد رقم 64/ 4 في خريف عام 2006 – الصفحات 462 - 470.
 تأليف: ديفيد أوسيبوفيتش

 


ترجمة أحمد عبد الفتاح