وردة الصحراء من قتل الفاتنة مليكة؟

وردة الصحراء من قتل الفاتنة مليكة؟

العدد 538 صدر بتاريخ 18ديسمبر2017


 نشر الروائى الكبير “بهاء طاهر” روايته (واحة الغروب) لأول مرة عام 2006 (دار الهلال) ، وحصل بها على جائزة البوكر العربية فى أول دورة لها عام 2008 ، صائغا فيها عالما صحراويا ، يقبع بأفكاره وأسراره وتقاليده فى أطراف البلاد ، بواحة سيوه ، فى نهايات القرن التاسع عشر ، وفد إليه بطلها المنكسر الضابط المصرى المنكسر من وسط القاهرة ، ليعيش سنوات ملتهبة وسط هذا الفضاء المتسع ، ولنعيش معه واقعا يكاد أن يكون أسطوريا ، بين صراع الشرقيين والغربيين خارج بيوت القرية الفقيرة ، وصراع الأعراف البدوية الصارمة مع الرغبات الإنسانية المتمردة ، والفوارق الطبقية بين الزجالة (الفلاحون) والأجواد (زعماء القبائل) ، وأخيرا السعي لمعرفة حقائق عن الآثار القديمة والنظرة إليها على أنها خرائب تسكنها الجن والأرواح الهائمة .
وبعد تقديم هذه الرواية مسلسلا فى الإذاعة المصرية عام 2012 من إعداد الكاتب “محمد علي” ، حصلت على الجائزة الذهبية كأحسن مسلسل إذاعي لذاك  العام ، فضلا عن جائزة مهرجان تونس العربي للإذاعة والتليفزيون ،  كما شاهدناه فى مسلسل  آخر على شاشة التليفزيون عام 2017 من إعداد كاتبتي السيناريو “مريم نعوم” و”هالة الزغندى” ، تأتى اليوم المخرجة ومصممة الرقصات “سالى أحمد” والمدرس المساعد بمعهد البالية ، لتقتحم عالم هذه الرواية الثرية ، لتقديمها بفرقة الرقص الحديث بدار الأوبرا ، باسم (أرملة الصحراء)  متجاوزة الحكاية الإطار الدائرة حول شخصية الضابط “محمود عبد الظاهر” وزوجته الأيرلندية “كاترين” واضطراره تلبية لأوامر رؤسائه الإنجليز بالجيش ، بسبب ميوله العرابية فى زمن انكسار الجيش المصري واحتلال الإنجليز للبلاد ، اضطراره للسفر من العاصمة إلى واحة سيوه ليعمل مأمورا للقسم هناك بدلا من المأمور الإنجليزي المقتول على يد أهالي الواحة ، وتشابك علاقته الشخصية بزوجته المتمردة وسط هذا الفضاء الصحراوى المتسع ، وعلاقته كمأمور مطالب بتحقيق الأمن وجلب الضرائب من مجتمع فقير لخزانة الدولة المصرية فى العاصمة ، مما أدى لانتحاره فى النهاية .
بينما اختارت “سالى أحمد” شخصية “مليكة” بطلة الحكاية الداخلية التى تدور وسط هذه الواحة ، لما تتميز به هذه الشخصية من روح هائمة فى الصحراء ،متمردة على تقاليد وأعراف  مجتمعها الغارق فى الخرافات ، وهو ما يتيح الفرصة للتعبير بالرقص عن هذه الروح العصية على الخضوع لواقع يهدر إنسانيتها المنطلقة ، فيحل التعبير الجسدى محل التعبير بالكلمة العاجزة بدورها عن الكشف عما يختلج به العقل ويجيش به الوجدان ، لاسيما أن الكلمة هنا قاتلة لأنها تقذف المعنى بوضوح فى وجه عقليات كابتة للجسد عامة ، وجسد الأنثي المحكوم بأعراف ظالمة تكبت وجوده داخل البيوت ، وتسمح له فقط بالتنقل من بيت رجل لبيت آخر ، فهى عنده منعدمة الهوية ، لا دور لها فى الحياة غير أمتاع الرجل وإنجاب الأبناء .
اغتيال الأنوثة
يمثل الرقص مدخلا انثروبولوجيا لمعرفة نظرة المجتمع للجسد الإنسانى وحركته فى الحياة بصورة عامة ، وفى هذا العرض خاصة يقارب الكشف عن مفهوم هذا الجسد فى العقلية الصحراوية ، فهو محرم عليها التميز ، حتى ولو بالجمال الفطرى ، لذا قدمتها “سالى أحمد” فى البداية فتاة متفردة عن كل فتيات الواحة ، فرحة بجمالها ، عاشقة لحياتها ، منفلتة من بيتها لتعبر الصحراء المفتوحة وصولا للمعابد ، التى ينعتها الأهالى بالخرائب ، لتجمع ما تبقي من تماثيلها الفرعونية والرومانية المسروقة ، تعود بها لبيتها راقصة معها ، وصانعة بأناملها ما يشبهها ، خالقة فى خيالها عاشقا للحياة مثلها ، سرعان ما تقتحم أمها ركنها الصغير ، لتبعد عنها معشوقها المتخيل ، وتضع الهباب على وجهها لتطمس جمالها ، كما يقول الراوى من خارج المسرح (بلاى باك) ، وتزيد الأمر تعقيدا بفرض ارتدائها ثياب الأطفال حتى لا ينتبه أحد لأنوثتها ، ومع ذلك تستثار الواحة ، فلا يصنع التماثيل غير السحرة  الأشرار ، وتقوم الأم “خديجة” (أدت الدور بتميز رشا الوكيل) مع بقية النسوة لابسات السواد وماسكات سعف النخيل بتعذيبها وضربها بها فى لوحة رائعة ، لا ينقذها منهن غير عاشقها المتخيل ، فتعود لتصنع تماثيلها فى ركنها الخاص ، دون أن تترك مع عالمها الخاص ، فتضرب مرة أخرى من فتيات مثلها أيضا بالرمال ، بينما ينفجر الصراع بين جماعتى الواحة ، والتى يقررها الرجال حتى فناء آخر رجل منهما .
وسط هذا الصراع الدموى ، المتجسد رقصا أمامنا بفضاء المسرح بخلفية من الكتل المتحركة والبانوراما التين تمثلان عالما جبليا تدور داخله وأمامه وقائع العرض ، تبدأ مظاهر الأنثى تبدو علي “مليكة” ، فتجتمع جماعة (الغربيون) التى تنتمى إليها الفتاة “مليكة” بعد أن صارت شابة (تؤدى الدور بتمكن متميز “ريم أحمد” ، وتقرر تزويجها من حبيبها “رضوان” من جماعتها وأبن خالها الشيخ “يحيى” (يجسد دور الشيخ بتألق محمد السيد / ميشا) ، والذى نعرف أنه سرعان ما قتل فى صراع بين جماعتى (الشرقيون) و(الغربيون) اللتين تمثلان مجتمع الواحة المنقسمة على نفسها ، فتصير أرملة ، وهو أمر شائن ومرعب للأنثى ، خاصة إذا كانت شابة ، فى هذا المجتمع ، فقد كانت شؤما على زوجها الرجل ، زاد من حدته لعبها بالتماثيل وخروجها من بيتها ، حتى يوم زفافها ، لاستنشاق هواء الصحراء وجمع التماثيل .
مؤامرة التقاليد
تقذف مصادفة موضوعية بالأرملة المتمردة لمصيرها القادم ، حيث تقرر الجماعتين إيقاف القتال بينهما ، والانتقال لمرحلة التصاهر الأجتماعي ، بـأن يتزوج كل فتى بجماعة بفتاة من الجماعة الأخرى ، ويبدأ الأمر باقتراح تزويج الرملة الشابة من أحد شيوخ جماعة الشرقيين  العجوز المزواج “معبد” (يجسده محمد مصطفي / كمبا) ، فلن يمسها شاب فى عنفوانه ، بعد أن صارت أقرب لكائن خرافي بشع المنظر سيء الطالع ، يمنحونه فى الأرياف والواحات المصرية اسم (الغولة) التى تخيف الأمهات وترعبهن على أولادهن ، يرفض خالها هذه الزيجة ، بينما يقبلها شقيقها ويجبرها على الزواج بالعجوز ، فتقبل صاغرة ، لكنها ترفض أن يلمسها زوجها المتصابي ، فتهرب ليلة زفافها من بيته للصحراء ، لتقعى على قبر حبيبها “رضوان” ، ويسعى خالها لتطليقها من “معبد” فيرفض فى البدء ثم يوافق عندما يدرك أنها بالفعل صارت غولة ، لكنه يموت قبل أن ينقذ قراره ، فتزداد كراهية المجتمع لها ، فهى المشعوذة التى لم يعش لها زوج ، ولم يعد أمام أجواد الواحة غير الموفقة على قتلها ، فقد حطمت تقاليد الواحة ، وصارت شؤما عليها ، فتقتلها أمها ضربا بالعصا على رأسها .
لم تمت وردة الصحراء اليانعة “مليكة” بيد أمها فقط ، بل ماتت قبلا بتجريمها من أهل الواحة لتمردها على أعرافهم ، لشعورها بجسدها فى واقع يعادى الجسد ويخشى على نفسه منه ، ولخروجها على مجتمع يحبس الأنثى فى أقبية وأكفان وأردية تقتل الحياة بداخلها ، فلا يبق غير الخلاص منها لأنها تثير فى داخلهم القميء أحط النزعات ، التى لا تعرف ثقافتهم المتدنية غيرها ، أم جمال الحياة وحيوية الجسد وسمو الروح ، فهى خارج نطاق تفكيرهم ، المتعلق بالخرافات ، والذى اعتبرها سبب الخراب الذى حل بالواحة ، بدلا من معرفة أسبابه الحقيقية الذين هم محركها .  
 


د.حسن عطية

hassan_attia@hotmail.com‏