قراءات فى .. مسرح فوزي فهمي (1_2)

قراءات فى .. مسرح فوزي فهمي (1_2)

العدد 544 صدر بتاريخ 29يناير2018

 

قد يحتار الناقد عندما يتناول المسرحيات الثلاث التي كتبها واحد بقامة د.فوزي فهمي (1938) على مدى تلك السّنوات الطويلة التي شارك فيها في حياتنا الثقافية، وندرك أن سنوات اهتمامه بالكتابة المسرحية لم تزد عن تسعة عشر عاماً عندما كتب أولى مسرحياته عام 1968 "عودة الغائب" التي لم يتح لها أن تقدم على خشبة المسرح القومي إلا بعد سنوات ، عام 1977 - تلتها مسرحيته الثانية "الفارس والأسيرة" عام 1987 ، وظلّ مهموماً بالكتابة المسرحية إلى أن قدّم مسرحيته الثالثة والأخيرة "لعبة السلطان" عام 1986 – أي بعد ثمان سنوات- ، وبعدها صمت تماماً عن الكتابة للمسرح !! 

أذكر أنّي سألته بعد مسرحيته الأخيرة بسنوات لماذا لم يواصل الكتابة للمسرح ؟ فأجابني في يقين ]إن بناء مشروع واحد من مشاريع استكمال بناء أكاديمية الفنون التي يرأسها منذ عام 1989 – أفضل لديه من كتابة أي مسرحية ! [، وألزم نفسه بأكاديمية الفنون

وللحق فإن الرجل كان منغمساً في شئون الثّقافة وهمومها ، فقد شغلته تلك المهام.. مشاركاً في أنشطة المجلس الأعلى للثّقافة ، وتولّى مسئولية رئاسة مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي منذ بدايته تقريباً حتى عام 2010 – أي على مدى دوراته الثلاث والعشرين – بالإضافة إلى عضويته في كثير من اللّجان مثل عضوية مجلس إتحاد الإذاعة والتليفزيون وغيرها من اللجان المختلفة ، وبالإضافة أيضاً إلى منصبه السّياسي كأمين للّجنة الثّقافة في الحزب الوطني الحاكم ، وهي مسئولية هامّة وخطيرة.

      ولكي لا يجرفنا حديث البناء والعمارة والمشاركة في الأداء الثّقافي العام الذي اختاره لنفسه ، نذكر له كتابه الأوّل "المفهوم التراجيدي والدراما الحديثة" 1967 –وهو موضوع رسالته العلمية لدرجة الماجستير- وانهماكه في تدريس علم المسرح منذ عودته من بعثته العلمية في الإتحاد السوفيتي ورسالته العلمية التي لم ينشرها ، بعنوان (الأشكال الشّعبية المسرحية وعلاقتها بالدراما في بلدان الشّرق) . وفضّل أن يظل طول الوقت أن يقوم بالتدريس فيه حتى أصبح عميداً لهذا المعهد –ثمّ قدّم بعد ذلك بسنوات طويلة (حوالي ثلاثين عاماً) كتابيه "الثّقافة وقضايا المجتمع"-1996- ويطرح فيه رؤاه في قضايا المجتمع التي عاشتها مصر في تسعينيات القرن العشرين ، و"الثقافة والتجدّد"-1997- ويطرح فيه التحدّيات التي تواجه المجتمع المصري ، وطرح منظورا نقديا للواقع الإحتماعي والثّقافي، وهما – أي الكتابين- يتوائمان مع منهجه في الإهتمام بالثقافة ومشاكلها بوجه عام ، ففي المسرح علي وجه الخصوص يقدم كتاباً بعنوان "الدراما الروسية " -2000 ، ولا يعني كل هذا عن أنه قد انصرف عن تدريس فن المسرح والدراما طوال تلك السّنوات ، فقد بدأ استاذا لعلم المسرح ، وظلّ مشغولاً بتدريس هذا العلم لتلاميذه بالمعهد العالي للفنون المسرحية والجامعات الأخرى إذ يعدّ نفسه استاذا في مجال علوم المسرح وبالتعبير الشّعبي (خوجة) في مجاله ومهنته ، وأنه كان يفضّل أن يكون أستاذا اكاديمياً. وآمن انه قد يستطيع أن يقدم كُتابا ونقادا للمسرح في مجال مهنته - وأعود إلى التساؤل مرّة أخرى: كيف ضحّى كاتب مسرحي جاد بالإستمرار في الكتابة للمسرح من أجل تلك الإنجازات التي كان يحلم بإنجازها ؟ وهل تحوّل إلى رجل دولة يؤمن بما يلمسه أمامه لا بما يحلم به وما يراوده من أخيلة ؟ أم أنّه وجد أنّه لم يعد لديه ما يقوله في القضايا التي تشغله وتلحّ عليه من خلال الكتابة المسرحية التي يدرسها لتلاميذه ففضّل أن يعبّر عن نفسه بشكل آخر في مجالات غير الكتابة للمسرح الذي لم يعد لديه شيءيقوله من خلاله ؟ لكن كان لديه الكثير ليقوله عبر وسائل أخرى كالدّراسات والأبحاث الأكاديمية المعرفية .. إذن فما هي تلك القضايا التي شغلته ؟ أو الأخيلة التي راودته وطارته كي يبوح بها، ويكشف فيها عن مكنون وجدانه وفكره عبر الإبداع المسرحي؟

     ونبدأ بأولى مسرحياته "عودة الغائب" التي بدأ كتابتها عام 1968 بعد هزيمة يونيو المهينة والمذلّة ، ولكن لم يتح لها الظهور على خشبة المسرح إلا عام 1977 في عهد آخر ، وعصر آخر ، وحرب أخرى (هي حرب 1973) – وكان قد استلهمها عن نصّ الاغريقي (سوفوكليس) "أوديب ملكاً" في معالجة جديدة أو تنويعات جديدة على نفس الفكرة الأساسية .. وكأنّه قد أراد أن يعود إلى ميلاد التراجيديا اليونانية ، بحثاً عن ربط نصّه بواحدة من أبرز التراجيديات المعروفة في العالم. فبدأ نصه بإتفاق (جوكاستا الأم) و(أوديب الإبن) أن يكتما سرّ زواجهما ، وأن يواصلا حياتهما معاً ، فقد اقتنعا بأنّهما لاذنب لهما في هذا الزّواج ، وأبرياء من ارتكاب هذا الشر ، وهويبدأ أحداث مسرحيته بتآمر- (كريون) و (تيرزياس) على أوديب من أجل الإطاحة به بعد تربّعه على العرش عندما حلّ اللغز ، ويرى كريون ]أنه سارق عرشه الذي هو أولى به ، بعد مقتل الملك العجوز (لايوس) على يد عصبه.. ، لكن لا يزال مقتل لايوس لغزاً ، ويرى أن أوديب قد أصبح أسطورة لدى الجماهير التي يلتقي بها دائماً[ .

    وفي تصوري إن أوديب- في الحقيقة لم يصبح بطلاً تراجيديا بعد إتفاقه المشين مع أمّه (جوكاستا) على إخفاء هذا الزنى الشائن ، وهان على نفسه ، (ومن يهن يسهل الهوان عليه ، وما لجرح بميت إيلام). ونلاحظ هنا أن الكاتب قد بدأ في كتابة هذا النّص عام 1967 –عام الهزيمة المذلّة- وكأنه يشير إلى أنّ الحاكم يجلس فوق عرش دنس لا غفران له ، ورغم ذلك كان دائما ما يعود إلى الشعب ممثّلا في الجوقة التي تبني وتزرع وتحصد ، باحثة عن مستقبل آمن ، وتفشل محاولة (كريون وتريسياس) في قتل أوديب: على يد شخصية (الرّجل) الذي يشهد بنزاهة أوديب وشرفه ، وفي نفس الوقت تُـقنع (جوكاستا) (اوريجينيا) بأن تتزوج أوديب كي تُـعنى به بعد أن أصبحت عاجزة عن القيام بدور الزوجة ، ويقتنع اوديب بأن يقبل بهذا الزواج ، لكنّه لايقبل معاشرتها !ويستطيع اوديب أن يواجه مراكز القوى في مملكته في شكل الجوقة ، فهو يريد الخير للبلاد ، وهم يرفضون مشاريعه لمجرد الرّفض ، ويكشف كريون علاقة اوريجانيا بأوديب ، ويكشفها لجوكاستا ، فتبوح جوكاستا بسرّ أمومتها لأوديب.

   وفي الفصل الثالث من المسرحية ، وعنوانه (الطاعون) ويبدأه (بالجوقة) كما في الفصل الأول –وعنوانه (التعرف)- ، والفصل الثاني –وعنوانه (القرار)- ، وتبكي الجوقة ما حدث لطيبة من خراب ودمار وموات ، ويلتقي اوديب بجوقة الشعب ، ويحاول أن يبث فيهم الشجاعة والصّمود لمواجهة الطّاعون الذي انتشر في البلاد (طيبة) ، وعندما يخبر كريون تريسياس بسرّ زواج أوديب من أمّه ، يدبّر تريسياس خطّة القضاء على أوديب الذي قتل أباه وشارك أمّه خطيئة الفراش ، ويحاول أوديب الدّفاع عن نفسه أمام الشّعب ، ويصيح: ]يا ضيعة الآمال في عالم الأحقاد [ وهو الذي رضي أن يخفي سرّه المشين !! وتحاول (اوريجانيا) الدفاع عن اوديب أمام تريسياس وكريون ، فيوجّهان لها تهمة الفجور ، إلى ان تنتحر (جوكاستا) ، وينهزم اوديب أمام تصديق الجوقة –أي الشعب- بكلمات تريزياس وتكرر كلماته – لكنّها ترتد مرة أخرى وتتهم تريزياس بالكذب ، وترتد أيضا إلى (اوديب)وتتّهمه بأنّه لم يثق بهم ، وأنّه كتم (جرحه) وهم شعبه المحبّ ، وينادي اوديب بأنّه لا يجب أن تنحني الديمقراطية أمام السلطة ، ويرفض أن يفقأ عينيه - كما تحكي قصته- لأنه يحلم بالخصب لا بالعقم ، مودّعا الجميع ومتمنياً أن يكون في تراب طيبة مرقده الأخير.

    هذا السّقوط الذي وقع فيه اوديب ليس سقوطاً تراجيديا كبطل تراجيدي ،لكن سقوطة هنا لأنه لم يواجه شعبه بالحقيقة ، وكأن هذا الإخفاء هو سقطته ومسئوليته ... وتعكس هذه المحاولة لتفسير (د.فوزي فهمي) لأسطورة اوديب مدى ما كان يهدف إلى اسقاطه على زعامة ( ناصر) ، وكأنه اوديب ، وهو إدانة لهذه الزّعامة ، رغم حسن نواياها –لكنّه أقام زعامته على زيف وأكذوبة وإخفاء الحقيقة عن شعبه- لتنتهي بهزيمته وهزيمة بلده .. متمنّياً فقط أن يموت في تراب الوطن بعد أن نجح (كريون وتريزياس) في أن يقنعا النّاس بأن ]ذلك الأمر كله خداع وأحلام ذئاب[ - لذا فقد تخفي الكاتب في كشفه وإدانته لتلك الزعامة التي أودت بمصر إلى تلك الهزيمة المريرة من خلال تلك (اللغة) التي اختارها لحواره ، والمثقلة بالإستطرادات الطويلة ، والمملة أحيانا ، والتي لا تكشف بل تموّه وتغطّي على أفكاره التي أراد أن يبوح بها صراحة ، وينهي الكاتب نصّه بخطاب طويل أسيان ، وبلغة فضفاضة تذكّرنا بخطاب (التنحّي)الذي ألقاه (الزّعيم) في 6 يونيو 1967 ، عندما وقعت الهزيمة التي تشبه طاعون طيبة .

      وبعد مسرحية "عودة الغائب" يقدّم كاتبنا مسرحية "الفارس والأسيرة" والتي كتبها ما بين عاميّ 1977-1978 ، وتم تقديمها على خشبة المسرح القومي عام 1979 – أي بعد عامين من تقديمه مسرحيته الأولى.

     و "الفارس والأسيرة" مستوحاة من مسرحية (اندروماك) ليوريبيدس الإغريقي ، والتي كتبها أيضاً الفرنسي (راسين) ، ويبدأ كاتبنا مسرحيته التي قسمها إلى قسمين ، ويبدأ القسم الأول ]بفتى 1[، ]وفتى 2 [ ، ] وفتاة[حيث تحبّ الفتاة ،الفتى (2) الذي يموت في الحرب ، فتبكيه الفتاة فيكون الفتى (1) وفيّاً لصديقه الفتى (2) ، فيرعى الفتاة بحبّه (فالحي أبقى من الميت) ، ويوظّف الكاتب (الجوقة) سواءا كانت جوقة حديثة أو (جوقة الطرواديات) اللاتي يصاحبن (اندروماك) في منفاها ، وقد استغرقها طيف زوجها (هيكتور) الذي مات في حرب طروادة ، وأخذها القائد (بيروس) أسيرة مع من تظنّه طفلها ، ومعها في الأسر أيضاً شقيق هيكتور (هلينوس) ، ويقاطع هذا حوار الفتى (1) والفتاة يتحدّثان عن العدل بعد أن انتهت حرب طروادة، وينتقل النّص إلى (بيروس) الذي كره الحرب وينادي بالسّلام بعد أن مات أبوه البطل (اخيل) في حرب طروادة ، وتلحق (بيروس) زوجته (هرميون) [إبنة (هيلين)] التي قامت الحرب بسببها[،ويخبره (المربي) بأخبار العنف التي تتجدد في البلاد فيدينها ، ويظهر الفتى والفتاة يأتيان بنبأ مجيء (اورست) إلي المدينة يطالب (بيروس) بتسليم طفل اندروماك للقوّاد لقتله ، لكيلا يكبر ويأخذ بثأر أبيه ،" فيرفض بيروس الذي ينكر فكرة الثأر ، ويبحث عن الأمان " بينما يصرّ اورست بأن (الغِل) والثأر هو الحل ، ويستنكر الفتى والفتاة ما ينادي به اورست حول القتال والثأر ، ويغوي اورست هرميون بأنه يحبها أكثر من (بيروس) ، ويعلم بيروس بوصوله، ويكسب القواد إلى صفّه ، - وعلى لسان المربّي – نكتشف أن الطّفل الذي تربيه اندروماك هو طفل بيروس –أي ابن هرميون- ، ويقرر بيروس أن تعود اندروماك إلى وطنها ، بينما يتآمر رجال الحرب مع اورست لقتل الطّفل وإدانة بيروس الداعية للسلام ، ويهرب اورست وهرميون من بيروس ، من منطلق غيرة هرميون من طفل اندروماك ]الذي هو في الحقيقة طفلها[ !!

     وفي القسم الثاني من النّص تصدم اندروماك بأن اورست جاء ليقتل الطفل الذي تحتضنه – لكن بيروس يطمئنها بأنّها في أمان ، ولن ترحل بعد أن أخفى عنها سرّ الطّفل ، وتخاطب طيف زوجها هكتور، الذي يؤكد لها موته ، ويظهر (الفتى) (1) ليحتفل بذكرى قتلى الحرب ، وترثي (الفتاة) الشّهيد ليرتبط الفتى والفتاة ببعضهما ، وكذا يظهر الرّجل العجوز والزوجة ، والأم ، ومعارض 1-2-3-4 يطلبون الثأر والحرب ، ويفشل معارضوا بيروس في إشعال الحرب ، والغريب أن هرميون عندما تعرف أن ولدها الذي فقدته أثناء الحرب هو نفس الإبن الذي تكفله وتربّيه اندروماك على أساس أنه ولدها ، ورغم ذلك تهرب مع اورست كما هربت أمها هيلين من قبل مع باريس ، وهو الهروب الذي تسبب في حروب طروادة ، وعندما يختفي اورست وهرميون ، تظهر الفتاة والفتى والشباب 1-2-3 ، والزوج ، والزوجة يعلقون جميعا على هذا الهروب، ويظهر شبح هكتور لاندروماك يطلب منها أن ترحل إلى طروادة ، ومعها الطفل ، ويدبر معارضو بيروس مؤامرة بأن يشيعوا أن هكتور يردد بأن بيروس إغتصب اندروماك ، ويوقظ شقيق هكتور اندروماك من أحلامها ، ويخبر (المربي) بيروس بأن النّاس تطلب الأمان ، ويطالب القادة بيروس بأن هروب هرميون مع اورست معناه أن يعلن الحرب . فيرفض ويرفض أية إشاعات حول عشقه للطروادية اندروماك ، ويعترف (بيروس) لاندروماك بأنه هو الذي قتل طفلها ابن هيكتور أثناء الحرب في ثورة غضب بعد مقتل أبيه (اخيل).. فتهاجمه ، وفي النهاية تندم هرميون على هروبها بينما يقف بيروس وسط قادته يستعد لحرب المتآمرين ، ويردد: ]حرية الحاكم وحده تؤدي إلى الدّمار ، إلى الموت ، لكن الحرّية النّاس تقتل الخوف ، تسوق إلى العدل [ ، ويظهر الفتى والفتاة يرددان مقولة بيروس ، وينهي بيروس هذا النّص مدافعاً بأن: ] يبدو العالم أكثر بهجة [ .


عبد الغنى داوود