السيرة الهلامية .. في دروب الهزل والسخرية تكمن المأساة

السيرة الهلامية .. في دروب الهزل والسخرية تكمن المأساة

العدد 542 صدر بتاريخ 15يناير2018

من أهم الاشكاليات التي تواجه المخرج المسرحي عند الشروع في التفكير لتقديم عمل مسرحي هو الهدف من تقديم هذا العمل، وما هو الاستخدام الأمثل لأدواته لتصل رسائل العمل للمتلقي، وبالتالي تحقيق الهدف من العمل المسرحي.. وهناك عوامل كثيره تؤثر على اختيار الهدف من العمل، وبالتالي استقبال المتلقي له والتفاعل معه، من بين تلك العوامل هو المناخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمجتمع وتأثير تلك المتغيرات على المتلقي المتوقع للعمل.. ربما كل ما سبق كان من أهم الأسباب التي دفعت المخرج محمد الصغير لمحاولة تقديم عمله المسرحي (السيرة الهلامية) عن نص هاملت لشكسبير الذي كتب معالجته الدرامية “الحسن محمد” فالنص الأصلي هو أحد المآسي الشهيرة في كتابات وليم شكسبير التي تناولها الكثير من المخرجين برؤى كثيرة، ولكن مخاطر تقديمها من جديد تكمن في الوقوع في فخ التكرار.. لذا كان التفكير من قبل المخرج والدراماتورج في محاولة إيجاد صيغة تتناغم مع اللحظة الراهنة وتخاطب ثقافة المتلقي وتراثه الذي يختلف تماما مع ثقافة وتراث النص الأصلي.. فجاء نص العرض محاولا تقديم بناء درامي يتناسب مع طبيعة المتلقي وإطاره المجتمعي الذي يضم بين طياته الكثير من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وما تحمله من مشكلات أثرت على أفراد المجتمع وحملتهم بكثير من الضغوط المادية والنفسية.. ولهذا نجد أن العمل يتخذ من الكوميديا ديلارتي منطلقا رئيسيا لكل مفرداته مع الاستعانة في بعض اللحظات بأساليب ومدارس أخرى بما يتنغام مع الإطار العام دون افتعال أو خلط يؤدي إلى تشويه المنتج النهائي.. فكان الهدف منذ البداية هو السخرية من واقع يعج بالمشكلات والأزمات؛ ولذا كان الاعتماد على الشكل التراثي الراسخ في مخيلة المتلقي بتلك اللهجة التي تنتمي إلى صعيد مصر وكذا اسم البطل وهو «هراث» (هاملت في النص الأصلي) وحتى لا يختلط الأمر على المتلقي ويعتقد أنه أمام موروث شعبي صرف تعمد الحسن محمد كاتب النص إلى إضافة مفردات عصرية مثل الموبايل ومصطلحات الإنترنت الشائعة في برامج التواصل الاجتماعي ومزجها مع التعبيرات في تلك اللهجة الجنوبية لتصبح لغة النص تعبر عن إشكالية اللحظة الراهنة من خلط بين كل التوجهات وعدم وضوح الهوية رغم وجود مفرداتها يتضح هذا أيضا في الأسلوب الساخر المستخدم في بناء كل مشاهد العمل بما فيها المشاهد التي تعبر عن ذروة التصاعد الدرامي والتردد الذي يجتاح البطل والذي تشظى داخل النص إلى ثلاث شخصيات (هراث المسالم الساذج – والمنتقم – والباحث عن الحقيقة) لتتحول كل شخوص العمل داخل هذا الإطار الساخر الهزلي إلى شخوص هزلية تتحدث بلغة تعتمد على الهزل بداية من شبح الأب مرورا بكل شخصيات العمل.. لتجسد لغة النص وبناؤه الدرامي نظرة ساخرة لكل الأوضاع الراهنة ومفجرة الكوميديا من قمة المأساة في مجتمع النص لتحيله على ما يحدث في الواقع من مشكلات، انسحب هذا أيضا على بناء الشخصيات وجعلها أقرب إلى الشخصيات النمطية كما في الكوميديا ديلارتي ليتسق البناء الدرامي بكل مفرداته.. ورغم تماسك فرضيات العمل ومنطقيتها داخل الإطار الدرامي إلا أن النص وبهذا البناء لم يستطع الحفاظ على الإيقاع السريع الذي يفرضه المنهج واستغرق في استعراض بعض التفاصيل التي أثرت على الإيقاع العام ليشعر المتلقي بطول زمن العرض.
أما عن المخرج محمد الصغير، فقد كان واعيا منذ اللحظة الأولى بهدفه وهو صناعة البهجة والمتعة للمتلقي مع تصدير السخرية الموجودة داخل العمل وإحالتها للحظة الراهنة بكل ما تحتوي من متناقضات، فعلى مستوى الديكور الذي صممه “مصطفى حامد” بشكل يوحي بالاحتفالية دون الوقوع في براثن تحديد مكان ما أو زمن ما حيث جاء بتحديد فتحت البروسينيوم بهذا الإطار الأمامي الذي زينه بأشكال هندسية تنوعت بين المثلث والمربع والمستطيل ذات ألوان ساخنة ثم ترديدات متدرجة لهذا الإطار متجة إلى عمق المسرح الذي يحتوي على مستوى تم تخصيصه للفرقة الموسيقية والكورال، وهو أيضا تم تلوينه بنفس الأشكال التي احتواها الإطار في مقدمة المسرح مع ما تم تعليقه بكامل عمق المسرح من لمبات صغيره مضيئة وكأنها نجوم السماء لتكتمل الصورة الاحتفالية التي أرادها المصمم والمخرج، والتي رسخت لعمومية اللحظة وآنيتها مع استخدام بعض قطع الديكور الصغيرة للإشارة إلى مكان الحدث، ولكن باستخدام غير تقليدي مثل شرفة القصر التي استخدمها كمشهد خارجي ثم داخلي أمام الجمهور.. وكذا السرير الذي جعله في شكل رأسي ليكرث للخروج على الشكل الواقعي في كل عناصر العمل والإشارة إلى الخروج على الأعراف في مجتمع النص، الملابس التي صممتها “هبة مجدي” جاءت على نفس النهج في الألوان المبهجة الساخنة وإن أعطى الطابع العام للتصميم الشكل التراثي (الجلباب الصعيدي/ العباءة/ الجلباب النسائي التقليدي/ السروال) ويجمع اللون والتصميم إطار فنتازي يرسخ للشكل الاحتفالي الهزلي العام الذي حدده المخرج للإطار التشكيلي للعمل مع إضافة لمسات عصرية تذكر المتلقي دائما باللحظة الراهنة.. هذا الإطار التشكيلي مضافا إليه البناء الدارمي للعمل أتاح للمخرج الخروج من القالب التقلديدي في حركة المؤدين فقد عمل على المزج بين أكثر من منهج في تناغم حيث استخدم الأغاني الحية من خلال تلك الفرقة الموسيقية في عمق المسرح بديلا عن الكورس بوظائفه المعروفة وصنع لهم معادلا بصريا من خلال مجموعة الأداء الحركي الذي استخدمهم في تقديم الشخصيات حركيا ووضع إطارا تشكيليا من خلال توظيفهم حركيا بكل مشهد للإشارة إلى مكان الحدث (منزل/ حقل/ ساحة عامة) منتهجا الشكل البريختي في كسر الإيهام والإشارة إلى المقابر بلوحات مكتوبة وكذا تقديم بعض الشخصيات لنفسها والتعريف بأدوارهم للمتلقي بل جعل من يؤدي شخصية الأم رجل كما في الكوميديا ديلارتي ويرسخ لعبثية الجرم وبشاعته.. الأشعار لعبد الله الشاعر والألحان محمود وحيد والأداء الحركي (سمير وجوليا) استطاعوا التكريث للجو الاحتفالي الهزلي وأداء وظيفة الكورس بشكل غير تقليدي متماشيا مع الإطار العام للعمل.. أما الإضاءة فجاءت هي أيضا مكملة للإطار التشكيلي بل وتم توظيفها لصنع الكوميديا إلا في بعض لحظات العمل خرجت عن هذا الإطار لتحول خشبة المسرح إلى الضبابية، ورغم دلالاتها فإنها لم تتناغم مع باقي مفردات العمل.. واستطاع المخرج أن يضع وجهة نظره في شخصية هراث (هاملت) بهذا التشظي الثلاثي للشخصية وإبراز الصراع الداخلي بصناعته مشهدا حركيا يجسد تلك الحالة، والذي ينتهى بقتل الباحث عن الحقيقة لعمه قاتل أبيه بعد أن احتدم الصراع بين المسالم الساذج والمنتقم.. أما الإشكالية الأهم في العمل هو الإيقاع الذي غاب عن بعض المشاهد فتأثر الإيقاع العام نتيجة الاستغراق في الكوميديا.. ورغم تلك الملاحظات فنحن أمام عمل يستحق التحية لم قدمته مجموعة العمل من جهد وانضباط وعدم الانزلاق في هوة الإسفاف وتقديم عمل راقٍ يقدم الكوميديا التي يحتاج لها المتلقي في ظل كل الظروف المحيطة.


طارق مرسى